فأبشرُ بِمَن يَسوقُكُم
ليست المرةِ الأخيرةِ التي سَتُطِلُ بها علينا داعشُ بِوَجهِها الكريهِ الذي يَحمِلُ تَقاسيمَ الماضي بِمأساويَّتِهِ والحاضِرِ بِمرارتِهِ والمُستَقبَلِ بِحَتميَّتِهِ التي سَتَجتَرُ الماضي والحاضِرَ معاً، حيثُ أطَلَّ حُثالَةُ المُجتَمعاتِ المَقهورَةِ من جُحرِها بإصدارٍ دَمَويٍ يَحمِلُ عُنوان: “فأبشرُ بما يسؤوكم”، حيثُ بَدأَهُ هؤلاءِ الَموتورون وكما هي عادَتُهم باجتِرارِ أقوالٍ ومقولاتٍ تَحمِلُ ريحَ الاستئصال والإقصاء المُنتِنَة التي تفوح من أفواهٍ حفِظَت ما ألقى عليها مُشَعوِذو “فِقهِ الدِماء” الذين انتَعَلوا عُقولَهم فساروا حفاةً فغَدَوا أدنى مَرتَبَةً ورُتبَةً من الحيوان، إذ إنّ هذا الأخير لهُ غريزَتهُ التي تَحكُمُ تصرُّفاتِه فلا ينقَضُ على فريسةٍ ما دامَ قد شَبِعَ وامتَلَأت مَعِدَته، أما هؤلاء، فإنّ تَعَطُّشُهم للدماء لا ينتهي بل هو سَعيرٌ مُتَّصِلٌ يزدادُ تأجٌّجَاً وغيظاً مع كلِّ فريسةٍ وضحية يُوقِعُها حَظُّها العاثر بين مخالِبِهم وحوافِرِ عقولهم.
"فَأبشِرُ بِمَن يَسوقُكُم"، خطورةُ داعشٍ لا تَكمُنُ في دَمَويَتِها، فتلكَ سمةٌ مُتَوارَثةٌ تُنبِؤ كُتُبُهم بوقوعِ ما هو أنكى وأشَدُ فَظاعَةً مما تَجنيهِ أيدِهِم التي استَعذَبَت تقاطُرَ الدَمِ مِنها بعَدَ أن إخشَوشَنَت مِن جَفافِ وخواءِعُقولِها فلم تجد ما تُبدِعُهُ، وأنّى لها الإبداع والموسيقى والشعر والنثر والرواية والتمثيل والرسم والتصوير والنحت... حرامٌ في حرامٍ في حرامِ؟
"فَأبشِرُ بِمَن يَسوقُكُم"، الانسياق لكل ما هو مجهول وغير معقول شَكّكَلَ وما يزال منهجية تعاطينا مع كل مواجهةٍ عقلانيةٍ يتعارض فيها النقل مع العقل، حيث يأبى أساطين أصول الفقه إلا تغليب النقل على العقل مع تشديدهم على “مكانة العقل واحترامه وأهميته وتمثيله للحد الفاصل بين الإنسان وما عداه من مخلوقات....”!
"َ"فأبشِرُ بِمَن يَسوقُكُم"، لا يجد الأصوليون إذن غَضاضَةً في الجمعِ بين تكريمِ العقلِ وامتِهانِهِ في آن، حيثُ أنّ للعقلِ عندهم حدودٌ تبدأُ حينما ينتهي هؤلاء من تخريج ما ينبغي على العقلِ فَهمُهُ وإدراكُه وتنتهي عند هذا الحد ذاته. ليتَ العقلُ حتى في هذه المساحة الوهمية للتفكيرِ حرّاً طليقاً، إذ عليه أن يستقبل ما تم تخريجه له من تفاسير وتأويلات وتبريرات على النحو الذي أراده المُخَرِّجون أو المُخرِجون لهذه المسرحية الهزلية ذات الفصل الواحد والمشهد الواحد وكاتب السيناريو والحوار الواحد والممثل الواحد والجمهور المتلقي الواحد.
"َ"فأبشِرُ بِمَن يَسوقُكُم”، كيف يُتَوقَّع من جيلٍ يتربى على أنه كلما تعارضت مسألةُ ما مع فطرته وعقله فإنّ عليه فوراً تَبديد طاقاته العقلية “بالبصق عليها ثلاثاً والاستعاذة منها بالله؟”! إذ لا نجاة لهُ إلّا بالتزام ما يُقالُ لهُ من أناس لم يعيشُ واقِعَهُ ولم يُعاصرو ما يُعاصِرُه؟ العقل هو رَكيزَةُ بناء الحضارةِ وتطوّرِ المَفاهيم والقيَم واكتشافِ الأسرارِ وسَبرِ أغوارِ الخفايا والتنقيبِ عن الخبايا في هذا العالم، ومع ذلك فإنّ قَدْرَهُ عند أصحابنا “3 بصقات” واستعاذة!
"فَأبشِرُ بِمَن يَسوقُكُم"، كيف يكون تَعطيلُ العقلِ من “مقتضيات الإيمان الصحيح” عند جمهور الأصوليين، وفي الوقت نفسه مناطُ التَكليفِ والتصديقِ ومن ثُمَّ التَسليم بخَبَرٍ سواءً كان من الأرضِ أو السماء هو العقل الذي تأبى طبيعَتُهُ وَوظيفَتُهُ الإكراه والإرغام والسير خَلفَ الداعي كالأغنام؟
"فَأبشِرُ بِمَن يَسوقُكُم”، يشكل كل سطرٍ من سطور العديد من الأدبيات الدينية جريمة قذفٍ وذمٍّ وتحقيرٍ في حقِّ عمالقة الفلسفة والتَفَكُّر الذين حوَلوا النهوض بالفكر الديني من أمثال ابن رشد وابن سينا وغيرهما ممن طُعِنوا في إيمانهم وعقيدَتِهم ونواياهم بأقلام أباطرة مدرسة “الشرح على المتون” من أمثال الغزالي وابن تيمية وغيرهما ممن لَطَّخَ مِدادُهم صفحات كُتِبَت من نور سَطَّرَها مُفَكِّرون أُهدِرَت دماؤهم لا لشيء إلّا لأنّهم فكّروا وتدَبَّروا وأعمَلوا عَقلَهم الذي أَبَوا أن يكون وعاءً يستقبِلُ ما يرميه فيهِ مشعوذوا العصور من نفايات فكرهم المُتَخَلِّفِ عن كُلِّ جديدٍ وتجديد.
"َأبشِرُ بِمَن يَسوقُكُم”، يَفطِرُ القَلب وَيُدميهِ أن تَرَبَيّنا على أنّ “تغليب النَقل على العَقل” هو مَحضُ إيمان، لأنّ النتيجةَ الطبيعيَّةَ لهذه القاعدةِ الظلاميةِ هي؛ جَعلُ الإيمانَ والجمود الفكري صِنوانٌ، بحيث تغدو سمةَ المؤمن الرئيسيةَ هي الترديد والنَعقُ بما يُتلَى عليهِ من ترانيمِ البطشِ والقَتلِ والإقصاءِ والاستئصال دون تفكير أو تقرير مصير، حيث أنّ التفكيرَ قد نابَ عنّا بِهِ أئمةُ “الشرح على المتون” والمصير تمَّ تحديدُهُ سَلَفاً منذُ قرون، والجَنّةُ لنا ولَهم النّار والدنيا لهم ولنا دار القرار.
إن لم يَنهَض المُتَنوِّرون من أبناءِ هذه الأمَّةِ المُخلِصين لإصلاح ما أفسَدَهُ كُتّابُ الماضي أشباحُ العصر، فيُعلِنونَ بِكُلِّ وضوحٍ أنّ العَقلَ مُقدَّمٌ على ما سواه وأنّننا خُلِقنا لنُفَكِّرَ وَنَتَدَبَّرَ والنَقلُ مَرجِعُهُ العَقلُ وأنّ ركيزَة إصلاح التَعليم والفِكر تَستَتبِعُ بالضَرورَة تَدريس الفَلسَفَة مُنذُ مراحِلَ مُبَكِّرَةً للطَلَبة في المدارِس وجَعلِها من المَساقات العِلميَّة الأساسيَّة في الجامعات، فإنّ العاقِبةَ ستكونُ وخيمَةً كما هي اليوم بل أشَدُّ فداحَةً، إذ لن نعدُ أن نكون كالقطيع الذي يستبشِرُ بِمَن يَسوقُهُ ليُسَلِّمَ لهُ الأمرَ كُلَّه.
مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.