عن غزّة أو حكاية الكارثة والبطولة
عودتنا إسرائيل في جميع حروبها السابقة، أن تجعل من الهدنة/ التهدئة، أو الساعات التي تسبقها، جحيماً على لا يطاق ... ألوف الفلسطينيين واللبنانيين والعرب، فقدوا حياتهم في “ربع الساعة الأخير”... مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة، سقطت في قبضة الاحتلال قبيل ساعات من الهدنة أو في اثنائها وأعقابها... والحال في الحرب البربرية الثالثة على غزة، لم يختلف عمّا سبق، فالمجزرة الأبشع، ترتكب في الساعات الأخير في رفح وجوارها.
لكن جديد المواجهة العربية الإسرائيلية، وإحدى أبرز مفاجآتها، أن المقاومة هي من سيبادر هذه المرة إلى اغتنام سويعات ما قبل “التهدئة الإنسانية”، فتنفذ عملية جريئة ضد موقع إسرائيل متقدم، تأخذه على حين غرة، من تحت الأرض وفوقها، فتنتهي العملية إلى خسائر جسيمة في صفوف الجنود، وتحقق أسوأ ما في كوابيس الجنود والضباط الإسرائيليين: الوقوع في الأسر أحياء.
حفلة الجنون الدامية التي أقامتها قوات الاحتلال للمدنيين الفلسطينيين في رفح وجوارها، هي التعبير عن هذه الهستيريا، وفي كل مرة كان يشتد فيها استهداف المدنيين الأبرياء طوال الأيام الخمسة والعشرين الفائتة، كنّا نعرف أن المقاومة أثخنت الجيش (الذي لا يقهر) بالجراح والخسائر في الأفراد والمعدات، إلى أن تفرج “الرقابة العسكرية” الإسرائيلية عن المعلومات المتصلة بقتلى الجيش ومصابيه، فتتحقق نبوءتنا.
حماس إرهابية، وإسرائيل “واحة الديمقراطية” في صحراء الشرق الأوسط القاحلة، هذه هي الدعاية التي روّجتها إسرائيل عن نفسها وأعدائها، وتلقفها بعض الغرب المنافق، وأخذ يكررها كالببغاء، وأحياناً يضيف عليها بعض “القيم المشتركة” التي تجمع الجانبين ... لندقق في الخسائر ... المقاومة قتلت اكثر من ستين جندياً وأسرت اثنين، فيما الخسائر في صفوف المدنيين الإسرائيليين لم تتعد الثلاثة قتلى (أحدهم تايلندي)، أما في الجانب الفلسطيني فإن تقارير دولية تتحدث عن 85 بالمائة من شهداء الفلسطينيين وجرحاهم من المدنيين الأبرياء، أطفال ونساء وشيوخ وذوي احتياجات خاصة، في مدارس الأونروا وملاجئها غير الآمنة، وبما يربو عن الألف وستمائة شهيد وتسعة آلاف جريح وربع مليون مهجر من الموت إلى الموت ... هذه هي قيم الإسرائيليين، فبئس القيم وبئس من شاركهم بها.
على أية حال، نحن أمام ملحمة فلسطينية، يسطرها أبناء غزة وبناتها، بلحمهم الحيّ ... بعض المتخاذلين العرب، لا يرى في غزة سوى صورة المأساة، ويتعمد التركيز على أشلاء الضحايا الأبرياء من أطفال فلسطين وشيوخها ونسائها، ليس من باب العطف والتضامن، ولكن من باب القول: انظروا ماذا فعلت المقاومة بكم ولكم؟ ... واحياناً أخرى من باب “ترميم” صورة الردع الإسرائيلية وإحياء ذكريات “الجيش الذي لا يقهر” ... هؤلاء لطالما برروا تخاذلهم وخنوعهم بالقول: لا قبل لنا بإسرائيل ومن السلامة أن نستسلم وننجو بجلدنا.
لكنهم لا يرون إلى الصورة إلا بعين واحدة، أصابها “العمش” حتى لا نقول “العمى”، فالجانب الآخر من الصورة الفلسطينية، إنما يتجلى في المقاومة الباسلة لشعب فلسطين وفصائله المناضلة والمقاتلة، امتداداً لمائة عام من التضحية والفداء، من الصمود والبطولة، من المعارك والحروب والثورات والانتفاضات، التي يأبى فيها الكف الفلسطيني إلا أن ينتصر ويقاوم المخرز الإسرائيلي وخناجر التخاذل والتآمر المغروسة في الظهر.
من شاهد جرأة المقاتل الفلسطيني، وهو يهاجم موقع “ناحال عوز”، وليس المستوطنة حيث “المدنيين الأبرياء”، وشجاعته في الاحتكاك المباشر مع جنود “النخبة” وتجريدهم أحد الجنود سلاحه، بعد استعصاء “سحبه” إلى داخل النفق، يدرك تمام الإدراك، كم هي فاشلة محاولات نتنياهو – يعلون –جانتيس، إعادة ترميم صورة “الردع” الإسرائيلي، لقد انمحت الصورة وتكسّر الإطار، وبات الفلسطيني أجرأ على مقارعة الإسرائيلي وجهاً لوجه ... انظروا إلى عملية أسر الجندي في ربع الساعة الأخير قبل التهدئة ... أنظروا لأطفال الحجارة في تظاهرات الضفة والمناطق المحتلة عام 48، وكيف يتصدى هؤلاء الفتيان، للجنود المدججين بالسلاح والكراهية.
انتهى زمن الحروب الإسرائيلية السريعة، وانتهت معه صورة “الجيش الذي لا يقهر”، فمنذ الهزيمة الكبرى في العام 1967 لم تحقق إسرائيل نصراً خاطفاً وأكيداً (واضحاً كما يقولون)، لا مع العرب في حرب أكتوبر 1973، ولا مع اللبنانيين والفلسطينيين ... انتهت صورة إسرائيل التي ساهمنا بضعفنا وعجزنا وتواطؤنا برسمها وتكريسها في أذهان أجيال من أبناء أمتنا .
الدستور