عمَّان ليست بلدةً أصليّة..!

لا تحمي الجنسيةُ الأردنيةُ، والرقمُ الوطنيُّ، ومعهما مكانُ الولادةِ، والكشفُ الضريبيُّ المواطناتِ والمواطنين من أصولٍ فلسطينيّة من السؤالِ عن بلدتهم الأصلية، حينما يكتبون في الأوراق الرسميّة أنهم من عمَّان. فهذه المدينة التي شهدت استيطانياً بشريّاً قبل تسعة آلاف عام، لا تُقنعُ موظفاً حكومياً بحقها أنْ تكونَ مكاناً يُنتسبُ إليه.

 السؤال نفسه، يطالُ مواليد ما بعد العام 1950، حينما كانت الضفّتان تشيرانِ إلى الحدود الجغرافية للمملكة، ولا يزالُ مطروحاً كسؤالٍ أمنيٍّ، يضعُ المواطنةَ في خانةٍ مشبوهةٍ، ومشكوك فيها، وما يتّصلُ بذلك من اعتباراتٍ واستحقاقاتٍ مدنيّة، مثلما هو سؤالٌ شعبيٌّ متَّفقٌ على معناه. فالكركيٌّ، والبلقاويُّ والجرشيُّ المولودُ في عمَّان ينتسبُ حينَ السؤالِ إلى قريةٍ، لا يعرفُها ذاكرةً مكانيّةً، ويتجنّبُ عمّانيته، وهو على ما نشأَ عليه، بأنه من هناكَ، وَلَيْسَ من هُنَا. فــ”الهُنا” لا تمنحهُ  تعريفاً واضحاً.

 أنا من عمَّان. لا تعني أنني أردنيٌّ مكتمل. المدينةُ لا تُلخِّصُ الهويّةَ والانتماءَ الإنسانيّ في القاموسين الرسميّ والشعبيّ، فلا بُدَّ من بلدةٍ، أو قريةٍ في الضفّة الشرقية، ليسهلَ التصنيفُ، أو قُلْ/ قولي، اختصاراً، إنَّ الأجدادَ وُلدوا في فلسطين، وَلَيْسَ مهماً، إِنْ كانوا من الضفة الغربية، أو من فلسطين التاريخية، فحتى العشيرةِ لا تُزيلُ الالتباسَ غالباً، خصوصاً أنّ العائلات ممتدةٌ اجتماعياً على ضفتي النهر.

 العقدةُ أساساً في عمَّان، وعلى نحو أقل في الزرقاء. والسؤالُ ُتكريسٌ لتشظيات الهوية وانتكاساتها، وَلَيْسَ لأسبابٍ إحصائية. إنه تعبيرٌ صريحٌ وفجٌ عن حالٍ لا تتغيّر مع الإنكار، بحالاته المتعددة، إِنْ في التشغيلِ العام، أو في الشرحِ الاصطلاحيّ للتوطين، أو في حرمانِ أبناء وبنات الأردنيات المتزوجات من فلسطينيين من الجنسية الأردنية، ولا يتوقَّفُ الأمرُ عِنْدَ مباراةٍ كرة قدم، بين الوحدات والفيصلي، وسوى ذلك، ودائماً يظلُّ القصورُ في تأويلِ الانتماء هاجساً يُشبهُ كابوساً في خلفيّات ذلك كله.

 ماذا تُريدُ الدولةُ الأردنيةُ من ترديدِ هذه النغمةِ، وهي تعلمُ أنَّ القطاعَ العام لم يعدْ جاذباً لكلّ الأردنيين، بمعزلٍ نهائيٍّ عن البلدةِ الأصلية: معانُ وإربدُ والمفرق، مثل نابلس والقدس والخليل.  كما تعلمُ أنَّ تحويلات المغتربين معظمها من الذين يواجهونَ سؤال “البلدة الأصلية”. أيضاً هي تُدركُ تماماً أنَّ القطاع الخاص الذي يُسيطرُ عليه رأسُ المالِ الأردنيُّ – الفلسطينيُّ تخلّى عن الاستماعِ لهذه المعزوفة التي أنصتَ إليها عقوداً، قَبْلَ أنْ يكتشفَ أنّ كلمة السرِّ في الكفاءة، وسحرها في زيادة العوائد وديمومة المصالح، وهنا لا أهميّةَ سوى لمنطقِ السوق، وَلَيْسَ لأيّ ضفّةٍ تسيلُ إليها المياهُ الشحيحة في نهر الأردن. المكاسبُ هنا تتقدَّمُ على بلدتكَ الأصليّة، فالمساهمونَ يريدونَ عافيةَ الأسهم، لا أمراضَ الأصولِ والمنابت.

 من هُم العمّانيون؟ وما معنى البلدةُ الأصليَّةُ في هذا السياقِ المريرِ. ما جدوى السؤالُ حينَ لا يعني أكثرَ من تمييزٍ، تترتبُ عَلَيْهِ انقساماتٌ وهشاشات. الأرجح أنَّ الدولة وأطرافها الطبيعيةُ والاصطناعية عاجزةٌ كليّاً عن الإجابة. ويزدادُ عجزها حينما لا يجدُ أبناءُ وبنات “البلدات الأصلية” جدوى من هذا الفرز، فالدولةُ فقدتْ قدرتها على ترجمةِ الأصولِ إلى منافعَ مباشرة، وهذا النوعُ من الغَزل لا يبني بيتاً في قرية، ولا يُنقصُ من أرقام المستفيدين من صناديق الإعانة الوطنية، وهو أكثر عجزاً عن حمايةِ مَنْ لا تكفيه العشيرةُ عناءَ دفعِ فواتيرَ المياه والكهرباء، ورسومِ أبنائه وبناته في المدارس الخاصة.

 مَنْ هم العمّانيون؟ وهل عمَّانُ مدينةً تتقاربُ فعلاً مع الخلفيات العِرْقية والثقافية والاجتماعية لسكانها، أَمْ أنها بديلٌ قسريٌّ لمكانٍ مُتخيّلٍ؟ فالمولودُ فيها. الذاهبُ إلى مدارسها. الجائلُ بين جبالها، ومقاهيها، الضميرُ المتكلِّمُ بلهجتها المُركّبةِ لا يعرفُ غيرها. يستوي في المشهد أبناءُ المحافظات، وبناتُ اللاجئين، وأحفادُ المهاجرين. بدوٌ وفلاّحون من الأطراف. طلبةٌ وحرفيّون وتجارٌ تمركزوا في الزحام. طبقة وسطى أنتجتها عافية القطاع العام في “الزمن الجميل”، قَبْلَ أنْ تذوبَ في الخصخصة والفساد، وها هي تقرأ في الصحفِ كلاماً يمينياً عن المحاصصات، وعن ازدواجِ الولاء، وتجاذبات الشحنات السالبة والمسلوبة في “دسترة فكّ الارتباط” و”الحقوق المنقوصة”.. وما إلى ذَلِكَ من مُكاسراتٍ، وسوء منقلبٍ، في تعبئة عامةٍ للفشل..

باسل رفايعة: صحافيّ أردنيّ، عمل في صحف يومية محلية، وعربية.

أضف تعليقك