عمّان وحيدة في المقهى

عمّان وحيدة في المقهى
الرابط المختصر

 

 

تعكس المقاهي انفصالنا عن الواقع الاجتماعي، وازدياد أعدادها في عمّان يؤشر على أن صلتنا الوحيدة بمدينتنا ومدنيتنا تتراجع، فالمقهى لم يعد سوى مكان لمشاهدة مباريات كرة القدم، أو لعب الورق والنرد، وفي أحسن الأحوال متابعة ازدحام الشوارع مع عبق الدخان المتصاعد من النارجيلة.

 

المقهى في بلادنا ليس جزءاً من الفضاء العام، كما تأسس في أوروبا، وحاولت محاكاته بعض مدننا العربية حتى ستينيات القرن الماضي، حيث تجتمع فيه نخبة الطبقة الوسطى وتتفاعل فيما بينها تيارات ثقافية وأحزاباً وجماعات ضغط سياسي، وهو كذلك لم يعد على صورته العربية القديمة؛ ملتقى للتواصل الاجتماعي والتسلية التي تكتمل بحضور الحكواتي، والمغنين والموسيقيين والراقصين في حقبة لاحقة.

 

نحتاج باحثين ودارسين لمعرفة التحولات التي طرأت على المقهى، مفهوماً وممارسة، فقد حافظ على وظيفته الترفيهية، وشكّل في الوقت نفسه بيئة لاجتماع المثقفين وقادة الرأي في بدايات القرن العشرين، وساهم روّاده في صياغة محطات مفصلية خلال تاريخنا المعاصر، لكن انحسار الفضاء العام (سواء المسرح أو الأحزاب أو الصحافة وغيره) في جميع الدول العربية منذ عقود عدة، دفع مع عوامل أخرى إلى جعل المقهى مجرد محلٍ يقدّم خدمات معينة.

 

وإذا تمعنا في الصورة أكثر، يمكننا ملاحظة أن الفئة الغالبة على زبائن المقهى هم دون الستين، وربما معظمهم أقل سناً، مما يعني أنهم على رأس أعمالهم أو عاطلين عن العمل، خلافاً لما كان عليه الحال سابقاً، فقد كان المتقاعدون هم أغلبية الزبائن!

 

وأبعد من ذلك، يندر أن تنصت إلى نقاشات تجمع زبائنه، فكلنا يعلم أن الفرجة على بطولات كرة القدم تمثل الهدف الأول لارتياد المقهى، يليها لعب الورق والنرد، وحتى إن أغلقت شاشات التلفزة وغابت الألعاب عن الطاولة، بدا الجميع منشغلاً بأجهزته الخلوية والتدخين والاستماع إلى أغانٍ كفيلة بصوتها العالي بمنع أي إمكانية للحوار.

 

ومهما حاول أصحاب المقاهي ترويج ثيمة أو ميزة استثنائية تخص محلاتهم، إلاّ أنها تبدو متشابهة بحكْم تماثل مرتاديها واحتياجاتهم –تجدر الإشارة إلى أن معظم العواصم باتت تخلق نسقاً واحداً لجميع قاطنيها-، ولا يتطلب الأمر جهداً كبيراً من باحث لحصر غايات زوّار المقهى وأنشطتهم، وحتى سرّ سكوتهم على المشروبات الرديئة التي تقدّم إليهم، والتلوث الضوضائي -بفعل الأغاني المسموعة- والتلوث بفعل الأدخنة المتصاعدة.

 

ولن يغيب عن بال ذلك الطالب، الذي سيختار المقهى موضوعاً لأطروحته في الدكتوراه، بأن جّل العاملين في هذا المكان هم ليسوا أردنيين، وبالطبع ليس موضوع المقال أو رسالته تنظيم العمالة الوافدة، إنما ملاحظة تفشي ثقافة العيب التي تمنع آلافاً من العمل بهذا القطاع.

 

وعلى هامش المقاهي، سيتعرض طالبنا إلى مخالفة كثير منها لشروط الترخيص، فقد سمحت الجهة المانحة للتراخيص أن تقام في أحياء سكنية، وأن تقدم النارجيلة خلافاً للقانون، وأن يرتادها من هم دون الثامنة عشرة.

 

بقي القول إن مسحاً بسيطاً لمدينة أوروبية تتساوى في عدد سكانها مع عمان، مثل العاصمة الألمانية، برلين، أظهر أنها تضم نصف عدد المقاهي العمّانية تقريباً، إلى جانب 175 متحفاً و50 مسرحاً و300 صالة عرض سينمائي، وعشرات المكتبات العامة.

 

محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.