على ذمة الحياة

على ذمة الحياة
الرابط المختصر

أن تعيش في مدينةٍ عصريةٍ، ناجحةٍ، تخطف الأبصار، وتدير الرؤوس، ولها سمعة الحواضر العالمية، وتشاركك في مسكنك فيها مجموعات من الحشرات المنزلية، فهذا ليس مجرد مشكلة شخصية وفق شروط النظافة، بل هو -على نحو ما- إشارة إلى مأزق المدينة نفسها، التي تقابل الإنسان ببريقها، لكنها تحاصر الأمل والمنتج بشروط حياة صعبة.

هل تتوجب هنا الإشارة إلى أن الحديث لا يجري عن مدينة بعينها، وحصراً؟

الأمر في أن المدينة المعاصرة، التي تنتسب إلى ما يسمى بـ"الحضارة الإنسانية"، لا تزال بعيدة عن توفير الحد الأدنى من الشروط التي يمكن أن تجعلها على مسافة معقولة من وعودها، وقادرة على تبرير تمددها على حساب الريف، أو جعل المرء يغض الطرف عن حقيقة أنها تُنتج بشكل أساسي الحروب والسيطرة والاستغلال.

وأن تعيش في عاصمة، مثل عمّان وبحجمها، وبعصرية واجهاتها، وتجد نفسك في الوقت ذاته مضطراً للتحايل في الإجابة عن أسئلة تحقق في اعتقاداتك الدينية، وتتناول عاداتك الشخصية، وتستكثر عليك التعاطي مع مظاهر العصر، فإن ذلك بلا شك يذكر بأنك لا تزال أسيراً لقرونٍ مضت تدهورت فيها الثقافة العربية، وانقطعت صلتها بإنسانها، ولم يكن بمقدورها أن تعبّر عن نفسها سوى بالتطرف.

طبعاً، وبالتخلف والظلامية الاجتماعية الهادئة، التي تكتفي بالإدانة الصامتة!

أن ينبض دم الشارع بحسٍ قومي، وينفعل بكلّ شاردةٍ في أقاصي الوطن العربي، ويهتم في الوقت نفسه بمعرفة بلد المنشأ لكل فرد من أفراده، فإن ذلك يعني أن هذا "الشارع" يكابد مشكلة هوية مستعصية، وهي في طريقها لأن تصبح معضلة وجودية.

وأن تندفع في إشهار هويتك الوطنية، وتشعر بالحاجة الدائمة والملحّة إلى تأكيد أنها ضاربة العروق في التاريخ، وفي الوقت ذاته تصرف جهداً في محاولة الإعلاء من شأن جملة أفكار يُزعم أنها اكتشفت هذه الوطنية، وسادت على بلورتها، فأنت بالضرورة في طريقك الحتمية لتبرير تحالفك مع الخطاب الرسمي ودعم السلطة.

أن تذهب إلى إدانة المعاهدات والاتفاقيات مع العدو المستلب، وتجد نفسك في السياق عينه مندفعاً بحماس إلى الدعوة لتبجيل مفرزاتها ونتائجها، فإن هذا يعني بالضرورة أنك استرخيت إلى الحد الذي يجعلك تشتم نفسك، بينما أنت تحاول أن تتزلف الآخرين.

وتزلف الآخرين، هو دائماً شتم للذات!

وأن يعيدك التطور التكنولوجي الهائل إلى موقف تستعيد فيه المؤسسات رغبتها في السيطرة على الفرد بكل نواحي شؤون حياته، وممارسة التجسس على حياته الشخصية، والرقابة على تفكيره، إلى درجة يصبح فيها منظر الأمن "الوقائي" أكثر أهمية من الأمن والاستقرار "العام"، فإن ذلك يذكّر بأننا نُنتج أنظمة شمولية جديدة، تخدم تأبيد التخلف، وإدامة "الاستقرار" في اللحظة الماضية.

هذا كلّه، يشبه أن تحسب أنك تعيش، بينما أنت في الحقيقة ميت!

 

  • ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.

 

أضف تعليقك