على أطلال الحضارة بين النهوض والاندثار
من روائع ابن خلدون الخالدة أنه سبق من قبله إدراكاً وضبطاً وتدويناً للقوانين الناظمة لحركة التدافع الاجتماعية والسياسية وتطور الامم ونشوء الدول وارتقائها او تخلفها وانحطاطها، فأكد على ضرورة إدراك التحولات التي تمر بالأمم والمجتمعات والأفراد وأهمية التكيّف معها، باعتبارها -اي المتغيرات- تعبيراً عن مسارات اكراهية، اذا انطلقت مفاعيلها فهي كالإعصار الذي يجرف من يقف أمامه او يتحدى عنفوانه،
هي اذاً النواميس الغلّابة تحمل من يستقوي بها وتقهر من يعاندها، وللتعبير عن هذا المعنى قال في مقدمته الشهيرة: "اذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله وتحول العالم بأسره وكأنه خلق جديد" .
وفقاً لقانون التحدي والاستجابة وهو أحد محركات التاريخ حسب رأي المؤرخ البريطاني (أرنولد توينبي)، إضافة إلى قواعد علم الإجتماع المتعلقة بنظرية السببية لتفسير التشكل الحضاري، ونشوء الأمم وارتقائها او هلاكها، وهو المعنى الذي عبر عنه (ارنست هيمنغواي) في رائعة (الشيخ والبحر)، عندما قال:"الحمقى والموتى هم الذين لا يغيرون آراءهم ابدا".
إدراك هذه القواعد يساعد في استيعاب ما جرى من بروز امبرطوريات سياسية على أنقاض أقطاب كونية واحلاف إيديولوجية كانت تتقاسم النفوذ والمصالح، وأيضا نشوء شركات اقتصادية عملاقة ومغادرة أخرى كانت منافسة بل ومسيطرة.
انه النظام الكوني الجديد بإيقاعاته السريعة ومتغيراته العميقة، ولا مكان فيه للعجزة والكسالى.
من الإنصاف أن نستذكر هدي النبي محمد - صلى الله عليه وسلم – عندما حذر من هذا المآل اذ كان يُكثر في دعائه: ( اللهم انا نعوذ بك من العجز والكسل ).
على الرغم من أن طبائع السوق الاقتصادي وقواعد التبادل التجاري، تحتكم لمبادئ الربح والخسارة وتخلو من العواطف والانفعالات، إلا أن الإنسان لا يستطيع أن ينسلخ من طبائع فطرته، ومكنونات وجدانه.
في المؤتمر الصحفي للإعلان عن شراء نوكيا من قبل ميكروسوفت، أنهى الرئيس التنفيذي لشركة نوكيا "ستيف بلمر" كلمته قائلاً:"نحن لم نرتكب خطأ، لكن بطريقة ما خسرنا".
وعند هذه اللحظة بكى، ولم يستطع أن يكبت عواطفه وانفعالاته، بل إنه هيج مشاعر فريق فريق الإدارة وشاركوه في البكاء.
نوكيا كانت عملاقة في سوق الاتصالات، ولم تقترف مخالفات في سيرتها الإدارية، ولكن غاب عن ادارتها القدرة على إدراك أن العالم تغير بسرعة كبيرة، وبالتالي فإنها - اي الشركة - فقدت فرصتها الثمنية ليس للبقاء، وكسب المال الوفير فقط، وإنما لتعزيز مكانتها في التنافس على القمة وتسيّد السوق.
العبرة الواضحة من هذا المثال ان تجاهل حركة التغيير والتجديد، وعدم إدراك أن عوامل البقاء والتقدم يستوجب ادامة النظر، وحسن التقدير، ومتابعة المتغيرات، واستشراف المستقبل، وأن الساكن الذي لا يراعي استحقاق التغيير سيخرج من المنافسة، بل وسيكون وقودا لاعصار المستقبل القادم بقوة وعنفوان.
هذه القاعدة ليست محصورة في اقتصاديات المال، وأسواق والتجارة، وتطور المنتج الصناعي والزراعي، وإنما هي قواعد تحكم حركة الفكر السياسي والاجتماعي والديني، وفي الإشارة الواردة في عدة أحاديث نبوية عن تجديد الإيمان وتجديد أمر الدين ما يكفي لإمعان النظر، واستدامة التقويم والتصويب والترشيد، وإذا كانت الكيانات السياسية ( دول، أحزاب، جماعات، مؤسسات ) لا تريد او عاجزة عن إدراك القادم الجديد او اللحاق به في الوقت المناسب فسوف تنتهي بمرور الوقت، ويفوتهم القطار، وسوف نقرأ في مدونات التاريخ، ان شركة نوكيا العملاقة مرت من هنا، تماما مثلما نقرأ في أسفار الشعراء أن المجد التليد الذي بناه الآباء المؤسسون بأيدينا اضعناه، وبكي على أطلاله مثل النساء من لم يحافظ عليه مثل الرجال.
يظل الإنسان ناجحا مادام طالبا للعلم، بل ومنكبا على المزيد، ( وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ).
فإذا أعتقد أنه قد استوفى العلم، واطفئ مصباح العقل، وأغلق باب الإجتهاد، ورضي لنفسه ان يبقى مقلداً، مثل آلة النسخ، فقد حكم على نفسه بالفشل، انتظارا لحكم القدر المحتوم، وعندها سيقول الأبناء عظم الله أجرنا، اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلفنا خيراً منها.
*نائب المراقب العام السابق لجماعة الاخوان المسلمين