علمنة الدين، بزوغ بعد الأفول

علمنة الدين، بزوغ بعد الأفول
الرابط المختصر

كتب الأستاذ حسني عايش منذ أيام حول تناول زغلول النجار قصة النبي يونس وكيف أنه أخضعها للعلم "التجريبي" لكن من الناحية النظرية أي دون أن يخوض بنفسه التجربة ليثبت إمكانية التهام الحوت لإنسان ثم لفظه حيّاً سويّاً سالماً غانماً أو غير غانم.

لم يكتفِ أصحاب الهوى الثيوقراطي في ما يبدو بإخضاع السياسة والعلاقات الإنسانية والعادات والتقاليد الاجتماعية والمعاملات الاقتصادية والتبادلات الثقافية والساحات الفكرية... لميزان التدين الذي يُكتَب الرجحان لكل ما يوضع في كفته بل تجاوزوا هذا كله لتستطيل تداخلاتهم وفرضياتهم إلى العلوم الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية وعلوم الفلك وغيرها، وليتهم يطوعون ما لديهم ليتواءم مع العلم بل بعضهم مسكون بالسلطة البابوية التي سادت العصور الوسطى حينما كانت الكنيسة المرجعية في كل شيء حتى في علم الفلك والفيزياء والطب وغيرها؛ فترى أصحابنا من مريدي أسلمة العلوم التجريبية  يبادرون إلى  ليّ ذراع العلم ليتناغم وتأويلهم وفهمهم للنصوص التي يحاولون جعل العلم منسجماً معها ولو أبت قوانينه ذلك.

 كثيراً ما تحدث المشايخ من فوق المنابر عن “الإعجاز العلمي” في مسألة تخلّق الأجنة ومراحل نموها وتطورها، وذهب البعض إلى نسج الحكايا عن علماء أشهروا إسلامهم في محافل ومؤتمرات علمية حينما سمعوا بالرواية الدينية لتكوين الأجنة، ومن أشهر ما اختلقه البعض من قصص في هذا الصدد؛ الادّعاء أن عالم الأجنة كيث مور قد أشهر إسلامه بعد أن ذهب إلى العمل في السعودية مع لجنة شكلتها إحدى الجامعات هناك بغرض دراسة الرواية الدينية لتكوينّن وتطوّر الأجنة البشرية، إذ تقول القصة المختلقة: أن العالم سرعان ما ذهل مما وجد في النصوص الدينية حول هذه المسألة وأشهر إسلامه على الفور.

 لقد أثنى على الأوصاف المستخدمة في وصف مراحل تطور الجنين سواءً في العهد القديم أو في القرآن الكريم وبعض الأحاديث وذلك مقارنةً بزمن نزول تلك النصوص حيث لم يكن هناك علم للأجنة ومن ثم لم تكن هناك اصطلاحات لوصف مراحل نموها وتطورها، إلا أن هذا العالم لم يقل أبداً بتطابق الرواية الدينية مع الثوابت العلمية التجريبية في ما يخص تراتبية مراحل تطوّر نمو الجنين، وهو من بعد لم يعتنق الإسلام بل قال أنه من “اللا أدريين” وأنه نشأ في عائلة مسيحية متدينة وهو يحترم جميع العقائد إلا أنه ليس بمسلم!

 إذا كان العلماء ينشؤون غير مسلمين ثم يسلمون لما يجدونه من قوانين علمية في الدين، فلماذا لم تُفرِز النشأة الدينية عندنا علماء يكتشفون ما اكتشفه غيرهم عن طريق البحث والتجريب لعقود طويلة؛ ما دام لدينا القانون العلمي ونتائجه جاهزَين منذ قرون؟ أليس هذا نقيض لمنطق الأمور وعكس الإفراز الطبيعي للنتائج المبنية على مقدماتها؟ فكأني بأحد سكان القطب المتجمد الشمالي مثلا يفرح بأن عالماً من خط الاستواء قد اكتشف تعقيد الأشكال البلورية للجليد بدلاً من أن  يخجل من نفسه لعدم اكتشافه ذلك وهو ابن البيئة الجليدية!

في الوقت الذي تشكل فيه نظرية النشوء والارتقاء وكتاب أصل الأنواع عمدة منهاج العلوم البيولوجية في المدارس والجاماعات الأميركية والأوروبية التي تصدر لنا خلاصة العلوم الطبية والوراثية وغيرهما، فإن أقصى ما يعرفه السواد الأعظم من طلبة المدارس عندنا عن داروين العظيم هو “ذاك الرجل الذي يقول أن أصل الإنسان قرد”، دون أن يتعلموا شيءً عن نظريته وما يدعمها أو حتى ما قد “يضحدها “ من دلائل مستخلصة من الحفريات والتحليل الكروموزومي للصفات الوراثية عند الحيوان والإنسان. لم ولن يتردد العديد من رجال الدين من تكفير من يجاهر بإيمانه بنظرية داروين لأنه –من وجهة نظرهم- ينكر معلوماً من الدين بالضرورة المتمثل بالروايات الدينية الخاصة بقصة الخلق والاستخلاف.

 من عجيب المفارقات أن زغلول النجار كاد أن يُكفِّر أحد أساطين التكفير؛ عبد الصبور شاهين الذي ألّف كتاب “أبي آدم” وتوصل فيه إلى أن القراءة اللغوية الصحيحة لآية استخلاف آدم في الأرض الواردة في سورة البقرة؛ تشير إلى أن آدم هو أول خليفة وليس أول البشر ولا أبوهم، وفي هذا السياق، خلع النجار قبعة العلماء وأبقى قبعة رجل الدين فأخذ يلوم شاهين ويوبخه واصفاً كتابه بأنه "عديم القيمة ومليء بالمغلطات ويخالف صريح وصحيح الرواية الدينية حول خلق آدم”.

 إن علمنة الدين أو تديين العلم تتشابه في طبيعتها ونتائجها مع خلط الدين بالسياسة؛ حيث لا السياسة باتت على حالها وغدى الدين مسيّساً وازداد الساسة المتدينون غلواً وتطرفا، لذلك فلا حاجة للدين بالعلوم التجريبية والأخيرة ليست بحاجة لفتوى أو مصادقة من رجال الدين لإثبات صحة قانون ما أو تفسير ظاهرة طبيعية معينة.

أتفق تماماً مع أحد الأصدقاء من كبار أطبائنا النفسيين؛ أنه يجب قراءة بزوغ فجر ظاهرة علمنة الدين في الأوساط النخبوية عندنا بعد أفول نجمها في الأوساط الشعبوية؛ قراءةً وافيةً لما ينطوي عليه ذلك من مؤشرات تؤكد ازدياد نزعة تديين الحياة بكافة جوانبها ممن يفترض فيهم توجيه دفة الإصلاح التربوي والسياسي والنقابي نحو الدولة المدنية التي يزعم التيار الديني السياسي عندنا أنه معها، اللهمّ إلا إذا كان يريدها دولةً مدنيةً دينية على غرار علمنة الدين وتديين العلم.

مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.

أضف تعليقك