عقد من تشتت العرب في "التيه" هل تخرجهم منه الثورات الشعبية؟

عقد من تشتت العرب في "التيه" هل تخرجهم منه الثورات الشعبية؟

على وقع الذكرى العاشرة لهجمات 11 أيلول 2001، يقف العالم لمراجعة ما حدث حتى الآن من أجل تقويم المواقف والسياسات وبناء سياسات جديدة في ضوء هذه التقويمات. فهل يفعل العرب، وهم الأكثر تضرراً من تداعياتها، كما يفعل العالم؟

النخب السياسية، على قلتها، تعمل على ذلك، والإعلام كذلك. وأكثر ما يشغلهم هو معرفة ما إذا كانت ثمة علاقة أو رابط بين تداعيات 11 أيلول وما يحدث في المنطقة العربية من ثورات شعبية اتفق على تسميتها الربيع العربي.

المشكلة الكبرى التي تواجه هؤلاء وغيرهم، هي أن الربيع العربي لمّا يستقر حتى الآن على هيئة أو وجهة تمكن من فهمه وتحليله والخروج باستنتاجات منطقية تفضي إلى استشراف لمستقبله ولمستقبل المنطقة، خصوصاً أنه لا يزال في طور التشكل.

ويذهب بعض الأصوات إلى أنه من المبكر جداً البحث عن هذه العلاقة أو هذا الرابط، إن من حيث أسباب التحولات الأخيرة في العالم العربي، أو من حيث النتائج التي وصلت إليها، أو تلك المقبلة.

غير أن هناك كوة تتيح المجال لإقامة العلاقة وإلإشارة إلى الرابط، وربما كان كشفها مرتبطاً بدوائر التفكير والتخطيط وصنع القرار الغربية أكثر منها العربية.

وهي تتعلق بقوة بالسؤال الكبير الذي طرحه الغرب عقب 11 أيلول، وهو: "لماذا يكرهوننا؟".

إرهاب ضد الغرب

يعتقد الغربيون أن أحد أهم أسباب توجه الإرهاب الإسلامي والعربي إليه، هو أن كلاً من الأنظمة الحاكمة، بما فيها تلك المرتبطة بعلاقات حميمة معهم، وأمراء "الإرهاب" يحمّلون الغرب مسؤولية الأوضاع المتردية في العالمين العربي والإسلامي، وخصوصاً تعقد حل القضية الفلسطينية وفشله.

وهم يرون أن كلا الطرفين استطاع توجيه الغضب والإحباط في الشارعين العربي والإسلامي إلى عداء للغرب، وهو ما مكّن من تنفيذ هجمات 11 أيلول وما تلاها من عمليات وتفجيرات في أماكن متعددة من العالم وفي أوقات مختلفة، مثل تفجيرات بالي ومدريد التي كان من أبرز أهدافها قتل عسكريين ومدنيين أجانب وغربيين.

والسبب الثاني الأبرز وراء توجه الغضب غرباً هو البيئات الحاضنة لـ"الإرهاب الإسلامي والعربي" والمتمثلة بالنظم الاجتماعية والتربوية والثقافية السائدة في معظم العالمين العربي والإسلامي، وتحديداً في المملكة العربية السعودية التي ينتمي 18 من المتهمين بتفجير برجي مركز التجارة العالمي اليها.

وهو ما أتاح للإدارات الغربية، والأميركية تحديداً (إدارة جورج بوش الابن) التي تحمل فكر ايديولوجية دينية متشددة، فرصة للضغط بقوة عليها وعلى بقية الدول العربية وخصوصاً دول الخليج ومصر "الظواهري" وأردن "الزرقاوي" وفلسطين "الحمساوية"، إضافة إلى باكستان وإيران.

وساعد في إقامة الحملة المتشددة على هذه الدول ونظمها وبناها الاجتماعية والتربوية إعلام منحاز، معظمه محكوم أو قريب من اللوبيات اليهودية في الولايات المتحدة وأوروبا، أو مرتبط بالتيارات اليمينية التي أخذت بالصعود والانتشار مستغلة الحملة العالمية على الإرهاب.

والتفاعل الغربي مع هذين السببين كان قوياً وآتى أُكُله، فهذه الدول اضطرت في سبيل دفع تهمة الإرهاب أو احتضانه أو التسبب به، إلى الالتحاق بالحملة العالمية للقضاء على الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة، والتي أدت إلى شن حربين في سنتين (احتلال أفغانستان للقضاء على "القاعدة" و"طالبان"، واحتلال العراق للقضاء على نظام البعث بقيادة صدام حسين).

بل إن الدول العربية جهدت في إقناع الغرب بأنها هي ايضاً مستهدفة من الإرهاب الذي"لا دين له" وأنها دفعت كلفة باهظة في مقاومته.

وجعل رد الفعل الغربي كثيراً من هذه الدول تخضع لمزيد من التبعية للولايات المتحدة الى ان تحولت أراضيها قواعد أميركية، مثل الأردن وقطر وعمان والكويت، بل إن دولاً عربية انخرطت في حرب أفغانستان تحت لواء حلف شمال الأطلسي، مثل الأردن والإمارات العربية، وتورط أكثر الدول العربية في نشاطات "استخبارية" تحت اسم "التنسيق الأمني" مع أجهزة الاستخبارات الغربية، بما فيها الإسرائيلية.

وساهمت "الحرب العالمية على الإرهاب" في فرض المفهوم الأميركي للإرهاب الذي اختلف عليه عالمياً، بجعل "مقاومة الاحتلال" صنوا لـ"الإرهاب" مما جعل الكثير من حركات المقاومة العربية والإسلامية موضع اضطهاد وملاحقة.

بل إن رقابة دولية صارمة ومصادرات عدة وتجميدات لأصول مالية فرضت على حسابات دول وأشخاص ومصارف عربية وإسلامية وعشرات الجمعيات والهيئات الخيرية، الأمر الذي أدى إلى ضرب أو تجميد الكثير من النشاطات الخيرية، بما فيها تلك الموجهة الى فلسطين ولبنان والى أسر الشهداء فيها.

الشرق الأوسط الجديد

الأخطر من الجانب الأمني والعسكري، كان السياسي، إذ سعت واشنطن وحليفاتها إلى فرض واقع جديد في المنطقة من خلال مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الذي هدف إلى تغيير البنى السياسية والاجتماعية والثقافية تحت اسم "الإصلاح".

هذا المشروع، الذي تبلور بعد سقوط العراق، كان يمكن أن يؤدي، أو أنه يهدف إلى خلخلة الأنظمة السياسية في المنطقة وتغيير خريطتها، وهو ما جبه برفض ومقاومة قويين من كل الدول العربية، التي اتفقت للمرة الأولى على قضية واحدة في مواجهة الغرب، وهي "رفض الإصلاح" الذي قالت أنه "مفروض من الخارج"، مدعية أن الإصلاح "يجب أن يكون من الداخل" وأن عليه أن "يراعي خصوصيات كل بلد وظروفه السياسية والاقتصادية والاجتماعية".

وكانت نتيجة صراع الإرادات هذا، التوصل إلى صيغة متوسطة عنوانها "الاستقرار"، بعدما، جهدت الأنظمة العربية في تخويف الغرب من أن البديل منها سيكون أنظمة إسلاموية غاية في التشدد، وهو ما أفلحت فيه بعدما أوصلت الانتخابات الفلسطينية مطلع عام 2006 حركة المقاومة الإسلامية "حماس" المسجَّلة على القائمة الأميركية للحركات الإرهابية، إلى رأس السلطة الوطنية الفلسطينية.

وساعد في تمرير صفقة "الاستقرار" البديل الذي طرحته المجموعة العربية للشرق الأوسط الجديد في قمة تونس 2005، وهو "المشروع العربي للإصلاح".

النتيجة الأبرز لهذه الصفقة كانت مزيداً من التبعية العربية للغرب، وخصوصاً في الجانب الاقتصادي، الذي كان أبرز دلائله صفقات خيالية للسلاح لا مبرر لها سوى إنعاش صناعات الأسلحة والاقتصادات الغربية.

لكن الأخطر تمثل في إطلاق أيدي الأنظمة العربية لقمع كل الحركات الإصلاحية، وخصوصا التيارات الإسلامية الداعية الى الإصلاح، بمباركة غربية، ومصادرة الحريات ووضع قيود صارمة عليها وتراجع الحراك الديموقراطي العربي، الذي رافقه تضخم غير طبيعي في أجهزة الأمن والقمع في الدول العربية.

وسجلت جميع منظمات وهيئات حقوق الإنسان العربية والدولية تراجعاً كبيراً وخروقات بالغة في حقوق الإنسان العربي في معظم الدول العربية خلال السنوات التي تلت صفقة استبدال "الإصلاح" بـ"الاستقرار"، وقت أُطلقت يد إسرائيل للتنكيل بالفلسطينيين وإكمال الانقلاب الذي بدأته عقب 11 أيلول على اتفاق السلام مع الفلسطينيين.

الربيع العربي

ثمة شبه اتفاق على أن اليأس المتولد من تعاظم القمع الرسمي وتزايده، وانتهاك الحريات وحقوق الإنسان، إلى تعمق وطأة الأوضاع الاقتصادية الصعبة على المواطن العربي واشتدادها، أفضت جميعاً إلى الثورات الشعبية، وخصوصا في الجمهوريات الاستبدادية.

الاستبداد، الذي كان لصفقة استبدال الإصلاح بالاستقرار، المبرمة بين الأنظمة العربية والغرب يد طولى في اشتداد وطأته على المواطن العربي، أوصل الشارع العربي إلى اقتناع مفاده أن سبب تردي أوضاعه بمجملها ليس الإرهاب، وإنما الاستبداد المرتبط بالفساد.

وهو ما أدى إلى استدارة كاملة للغضب المصحوب باليأس والإحباط إلى الأنظمة المستبدة. وساعد الغرب بحماسها في تعزيز هذا التوجه، ليتخلص إلى درجة كبيرة من تهديدات الإرهاب الموجهة إليه، أي قلب المعادلة على الأنظمة العربية. وهو ما ظهر بصورة واضحة في التعاطف الغربي مع الثورات العربية والدعم غير المحدود لها، بل توفير الحماية لها من فتك الأنظمة الحاكمة.

وكان أبرز نتائج هذا الربيع انحسار الاهتمام والتعاطف في الشارع العربي مع الحركات الأصولية، وهو ما ظهر في رد الفعل البارد على مقتل زعيم تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن.

وبينما كان الربيع العربي أسرع وأعمق في الجمهوريات الاستبدادية ( تونس ومصر واليمن وسوريا وليبيا) يعتقد المتابعون أن تباطؤه ورتابته في الأنظمة الملكية لا يعنيان إطلاقاً أنها بمنأى من التأثر بأجواء هذا الربيع.

لكن هذه الملكيات التي استفادت إلى درجة معينة من عامل التوقيت، ومن تضاؤل تأثير العامل الاقتصادي على مواطنيها مقارنة بالأنظمة الجمهورية، اتخذت سلسلة إجراءات إصلاحية اقتصادياً وسياسياً. ومع أن هناك من يرى أن هذه الاجراءات غير كافية، وهدفت إلى احباط الحراك المطالب بالإصلاح، إلا أنها نجحت، إلى درجة ما، في الحد من تسارع التحولات في الدول المعنية.

فهل تكون نتائج الربيع الآخذ في التفاعل إيجابية على الشارع العربي، فتخرجه من صحراء التيه التي أمضى فيها عقداً كاملاً من التشتت والارتهان للأجنبي وللأنظمة الاستبدادية الفاسدة؟

أم تنقلب عليه وبالاً وتبقيه داخل دوامة العنف والتقسيم ومزيد من "العرقنة" و"اللبننة" و"السودنة" ومزيد من البطالة والفقر والجوع والتبعية للآخر؟

النهار اللبنانية

أضف تعليقك