عاصفة في الجنوب
ما شهدناه من احداث مؤسفة في معان والبادية الجنوبية،لم يعد معقولا التعامل معه،بروحية إدانة الناس،وتجريمهم،وإطالة اللسان عليهم،واستغلال الاحداث للإساءة الى الوحدة الاجتماعية ووصفها بما لايليق من صفات،فالادانة هنا باتت مهمة مقصودة للطعن في الناس.
رحيل اربعة اشخاص،واستعمال السلاح داخل جامعة يؤشر على ما هو أعمق في تركيبة البلد،لأن العنف هنا ممتد ونراه في كل الجامعات،ونراه ايضا في الشارع وبين ابناء القرية والمدينة الواحدة،والبرلمان.
هذا وضع جديد لا يسعى أحد الى تفكيك أسبابه الاساسية،ونحن مثل الطبيب الذي يستغرق في وصف الادوية والمسكنات لخفض الحرارة،لكنه لا يجري فحصاً للدم للتأكد من حالة أمامه،وما الذي استجد عليه؟!.
عبر عشر سنوات تم زرع العداوات والحساسيات والكراهية بشكل مضاعف بين الناس على خلفية الانتخابات النيابية والبلدية،وعلى خلفية تقاسم النفوذ،في ظل غياب العدالة الاجتماعية،وتفشي الفقر الشديد والبطالة والامراض،فهذا مجتمع أعيد انتاجه كلياً.
فوق ذلك فان سياسة تبويس اللحى،والجاهات والاسترضاء،ادت الى نتائج سلبية،والمواطن بات أقوى من الدولة،ويريد اخذ حقه بيده،لان الدولة ايضا في حالات كثيرة لم تعد تحميه ولم تعد تأتيه بحقوقه،وسط مناخ من التفتيت الداخلي،انتج قوى بديلة في كل مكان.
اللافت للانتباه ان هناك من يريد تحت ستار الموضوعية،تلطيخ سمعة الناس،ولايسأل هؤلاء لماذا اصبحت العشيرة عصبية وحادة اليوم،وهي التي كانت هادئة قبل عشر سنوات،وبدلا من نقد الناس علينا ان نسأل عن الدولة ولماذا ضعفت،حتى يتجاوزها الناس في ردود فعلهم،التي في بعضها غضب على ذات المؤسسة الرسمية؟!.
هذا مشهد لن يتوقف،وسنرى مثله كثيراً،وهناك شكوك في حالات معينة بأن هناك اطرافاً داخلية تسعى الى تأجيج البلد بأي طريقة كانت،خوفاً من ملفات معينة،او انتقاماً من اوضاع محددة،وهؤلاء لديهم المال والرجال والقدرة لتفجير اي بؤرة اجتماعية او اكاديمية اوسياسية.
ما ينبغي قوله اليوم يتعلق بضرورة تطهير البيئة الاجتماعية من سلبياتها،ولا يكون ذلك الا بالبحث عن اسباب الغضب الاجتماعي،اولا،ومعالجة هذه الاسباب في كل البلد،وبعد ذلك لن تكون هناك بيئة خصبة لأي طرف يريد اشعال نار الفتنة الداخلية.
من المؤسف ايضا ان يظن البعض ان هذه الحرائق محصورة بمكان ما،او ببؤر اجتماعية محددة،لان اشتعال النار في مرحلة ما سيأخذ الجميع،ولن يستثني احداً،وبدلا من التشفي والشماتة المبطنة،لابد ان يتذكر الجميع ان النار اذا شبت لن تترك احداً من آثارها.
العنف في البلد تراه في كل مكان،وليس حكراً على احد،والدولة غائبة،وتحت التفكيك،والناس يشعرون ان لا قانون يحميهم،ولامؤسسات،ولاحقوق يتم تحصيلها،وفوق ذلك شعور بعدم العدل والفقر،وتبدد علني لقيمة القانون ومن ينفذه؟!.
الدولة ايضا تتحمل مسؤولية تحطيم الرموز الوسيطة بينها وبين الناس،فقد تم تحطيم مئات الاسماء التي كانت تلعب دوراً سياسياً واجتماعياً،لصالح انتاج طبقة هزيلة وغير مقبولة،ولاوزن لها،والذين حطمّوا الطبقة الوسيطة،لم ينتجوا بديلا لها.
اذا كانت الدولة غائبة وضعيفة،والقوانين غير ُمطبقة،والوسيط السياسي والاجتماعي تم حرق سمعته،والناس تحت ظلال الفقر والجوع والشعور بأن لاحياة لهم ولامستقبل،فمن الطبيعي جدا هنا،ان تنفلت الامور في كل مكان.
البلد باتت متروكة بشكل متعمد لتأكل بعضها البعض،فلا خطاب ُيوّحد الناس،ولامشروع وطنياً،ولارؤية للمستقبل،ولاحياة اقتصادية،وكأننا انتقلنا من مرحلة بناء الدولة وتثبيتها،الى مرحلة تركها للتفكيك على كل المستويات،وعلى مرأى من أعيننا.
الفاتورة الصعبة ستنزل على رؤوس الجميع،وبدلا من لوم الناس،علينا ان نسأل عمّن تركوهم ليصلوا الى هذه الحالة؟!.
الدستور