ضرورة إشراك المرأة في التشريع
سأبدأ مداخلتي بتوضيح الصيغة التي تضمنها العنوان، لما يمكن أن تثيره لدى البعض من تساؤلات، أقصد صيغة (إشراك)، التي قد يُفهم منها أنّنا ننطلق من كون الرجل هو المركز، والمرأة هي الهامش، أو أننا نطلب من مجتمع (رجولي) أن يتنازل، ويقبل أن تشارك المرأة في قضايا التشريع، ولعلّ في كلمة (ضرورة)، التي استهللت بها، ما يشير إلى أنّ الأمر يتعلق بمصلحة عامّة، وليس بمصلحة جنس دون آخر، حتى وإن بدا، أحياناً، الأمر كذلك.
عندما نعود إلى تراثنا الإسلامي، وبالضبط إلى صدر الإسلام، نجد صورة مشرقة للمرأة المسلمة، ولن تفوتني الإشارة، في هذا السياق، إلى أمّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - التي روت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ويبلغ مسندها ألفين ومئتين وعشرة أحاديث، وهي مشتهرة في كتب السنة (البخاري، ومسلم، والمسانيد...). أَكان علم عائشة علم رواية فحسب أم أنها جمعت بين الحسنيين: الرواية والدراية؟. كلّ الذين ترجموا للسيدة عائشة أكّدوا غزارة علمها، فقد قال عنها الزهري: «لو جمع علم عائشة إلى علم كلّ النساء، لكان علم عائشة أفضل»، وقال عنها الذهبي: «أفقه نساء الأمة على الإطلاق، ولا أعلم في أمة محمد - بل ولا في النساء مطلقاً - امرأة أعلم منها»[2]. وجاء في (الطبقات) عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: «ما رأيت أحداً أعلم بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أفقه، في رأي إن احتيج إلى رأيه، ولا أعلم بآية فيما نزلت، ولا فريضة، من عائشة».
ومعروف عنها كذلك أنها كانت تسأل الرسول (ص) عن الأشياء التي يُشكل عليها فهمها، وأنّها راجعت الصحابة رضوان الله عليهم. وأورد الزركشي ما استدركته عليهم. وأكتفي في هذا السياق بتعليقها على الحديث الذي رواه أبو هريرة عن رسول الله أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «يقطع الصلاة: المرأة، والحمار، والكلب، ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل». فلّما سمعت - رضوان الله عليها - هذا، قالت: «شبهتمونا بالحمر والكلاب؟! والله لقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلّي، وإنّي على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة، فتبدو لي الحاجة، فأكره أن أجلس فأوذي النبي صلى الله عليه وسلم، فأنسل من عند رجليه»[3]. إنّها أمّ المؤمنين عائشة، التي قالت عنها الدكتورة عائشة بنت الشاطئ: «عاشت لتصحّح رأي الناس في المرأة العربية، وتشارك في حياة الإسلام أعنف مشاركة، فتخوض معركة الفتنة الكبرى، التي صنعت التاريخ الإسلامي منذ مقتل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وتقود الجيوش لمحاربة علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه يوم الجمل»[4].
وإلى جانب الصديقة بنت الصديق، هناك أمّ المؤمنين أم سلمة، التي تعدُّ، هي الأخرى، من فقهاء الصحابيات، ويبلغ مسندها ثلاثمئة وثمانية وسبعين حديثاً. هذا بالإضافة إلى حفصة، وأم حبيبة، وميمونة، وجويرية، وصفية. وهناك، أيضاً، بنات عم الرسول (ص)، ونساء أخريات ينتمين إلى بيت النبوة، نذكر منهنّ: ضباعة، ودرّة، وأم هانئ، وأسماء بنت عميس، وأم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وأسماء بنت أبي بكر، وأسماء بنت يزيد بن السكن، وبريرة مولاة عائشة، وأم عطية الأنصارية، التي تُعدُّ هي الأخرى من فقهاء الصحابة.
إنّ من يقرأ سير هؤلاء النساء يجد أنهنّ كنّ في صلب قضايا المجتمع، فاعلاتٍ فيه إلى جانب أشقائهنّ من الرجال، ولم يستنكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن تخاطبه امرأة، وهي أم عمارة الأنصارية، في حديث رواه الترمذي، قائلةً: ما أرى كلّ شيء إلا للرجال، وما أرى النساء يذكرن بشيء، فكان أن تنزّلت الآية الكريمة: [إنّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً] [سورة الأحزاب: 35]. كما لم يستنكر - عليه الصلاة والسلام - أن تأتيه أسماء بنت يزيد الأنصارية، وتقول له بحضور الصحابة، وعلى مرأى ومسمع من الجميع: «بأبي وأمي أنت يا رسول الله، أنا وافدة النساء إليك، إن الله بعثك إلى الرجال والنساء كافة، فآمنا بك. وإنا - معشر النساء - محصورات مقصورات قواعد بيوتكم، ومقضى شهواتكم، وحاملات أولادكم، وإنكم معشر الرجال فُضلتم علينا بالجمع والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، وإن الرجل إذا خرج حاجّاً، أو معتمراً، أو مجاهداً، حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا أثوابكم، وربينا لكم أولادكم، أفما نشارككم في هذا الأجر والخير؟.
واضح من كلام وافدة النساء إلى النبي الكريم (ص) أنها تعدّد الأدوار الموكولة إليهنّ، بحكم الثقافة، وليس بحكم الدين، وأنها تتساءل عن قيمة هذه الأدوار في ميزان الشرع، وهو ما سيجيبها عنه الحبيب المصطفى عليه السلام، فينزل جوابه عليها برداً وسلاماً ما دامت قد انصرفت وهي تهلّل: «افهمي أيتها المرأة، وأعلمي من خلفك من النساء، أن حسن تبعل المرأة لزوجها، وطلبها مرضاته، واتباعها موافقته يعدل ذلك كله». لكن تجدر الإشارة إلى ما تضمنه الحديث أيضاً، وهو أن النبي (ص) التفت، عقب استماعه لكلامها، إلى أصحابه بوجهه كلّه، ثم قال: «هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مساءلتها في أمر دينها من هذه؟»، فقالوا: «يا رسول الله، ما ظننا امرأة تهتدي إلى مثل هذا».
يتضح من كلام الصحابة - رضوان الله عليهم - تصورهم عن النساء، ولاسيما فيما يتعلّق بأمور الدين، وصلى الله وسلّم على نبينا، الذي لم يكن ليترك الفرصة تمرّ دون أن يُعلّم الأمة ويربيها (رجالها ونساءها)، ويدلّها على الطريق المستقيم بأحسن المناهج، وأيسر السبل.
أعود لإبراز هذا الوعي المبكّر لدى النساء بضرورة المشاركة والإسهام في قضايا التشريع، وأستدلّ على ذلك بخنساء بنت خدام، التي اشتكت للرسول (ص) أباها الذي زوّجها دون رضاها، فردّ عليه السلام نكاحها[5]، ومنه استنتج الفقهاء أنّ الثيّب تستأمر.
وفي السنن من حديث ابن عباس: أنّ جارية بكراً أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت أنّ أباها زوّجها وهي كارهة، فخيّرها النبي صلى الله عليه وسلم. وعن عائشة: «أنّ فتاة دخلت عليها، فقالت: إن أبي زوّجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته، وأنا كارهة. قلت: اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فأرسل إلى أبيها فدعاه، فجعل الأمر إليها، فقالت: يا رسول الله قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن يعلم الناس أن ليس للآباء من الأمر شيء».
ولا تفوتنا الإشارة، أيضاً، إلى المرأة التي اعترضت على عمر بن الخطاب، وهو، يومئذ، أمير المؤمنين، وخليفة رسول الله (ص)، عندما ارتأى تحديد المهور في أربعمئة دينار لا تتجاوزها، وذكّرته بالآية الكريمة: ]... وآتيتم إحداهن قنطاراً..[. فتراجع، وقال قولته المشهورة: «اللهم غفراً، كلّ الناس أفقه من عمر»[6].
هذا فحسب، غيض من فيض يرينا ما كانت عليه نساء المسلمين من علم، ومعرفة، ووعي بأمور الدين والدنيا، وكيف كنّ حريصات على بناء علاقات سوية بين الرجال والنساء، علاقات مبنية على العدل، وعلى الخضوع، أوّلاً وأخيراً، للخالق.
إلا أن أحداثاً تاريخية ستعصف بهذا الفكر، وتعيد المسلمين إلى عهود سحيقة كان الرجال فيها يحجرون على النساء، ولنستمع إلى الفيلسوف ابن رشد (1126- 1198م)، الذي يحمّل المجتمع ما آلت إليه أحوال النساء في زمانه: «وإنّما زالت كفاية النساء في هذه المدن؛ لأنهنّ اتخذن للنسل، وللقيام بأزواجهن، وكذا للإنجاب، والرضاعة، والتربية، فكان ذلك مبطلاً لأفعالهنّ (الأخرى). ولمّا لم تكن النساء في هذه المدن (مدن الأندلس) مهيّئات على نحو من الفضائل الإنسانية، كان الغالب عليهنّ فيها أن يشبهن الأعشاب، ولكونهنّ حملاً ثقيلاً على الرجال صرن سبباً من أسباب فقر هذه المدن. وعلى الرغم من أنهنّ ضعف عدد الرجال، فإنهنّ لا يقمن بجلائل الأعمال الضرورية، وإنما ينتدبن، في الغالب، لأقلّ الأعمال، كما في صناعة الغزل والنسيج، عندما تدعو الحاجة إلى الأموال بسبب الإنفاق، وهذا كلّه بين بنفسه»[7].
وهذا القول لا يزال صالحاً لزماننا، وينطبق على كثير من المناطق في بلداننا شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً؛ ولذلك تجد الدول، اليوم، تحاول، جاهدةً، ردم الهوّة بين الرجال والنساء بتمكين هؤلاء قانونياً، واقتصادياً، واجتماعياً، وثقافياً. والمغرب ليس إلا واحداً من هذه الدول، التي تسعى لكسب رهان بناء دولة ديمقراطية حديثة، ذات مؤسّسات قوية.
حمل ابن رشد ما آلت إليه أحوال النساء في زمانه إلى المجتمع. ورأي ابن رشد لايزال صالحاً لزماننا وينبطق على كثير من المناطق في بلداننا شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً
ونظراً إلى علاقة التشريع بالمجتمع، وقع اختياري على مدوّنة الأسرة، هذه المدوّنة التي سبقها مخاض عسير، كان وراءه حوار وجدل بين مكوّنات المجتمع كافةً حول الإشكالية التي هي محور هذه الندوة المباركة.
فقانون الأحوال الشخصية، الذي كان معمولاً به منذ فجر الاستقلال، حيث تمّت صياغة أول مدوّنة في شكلها الوضعي سنة (1957م)، كان قد تبيّن قصوره، وعدم مسايرته لروح العصر، والمشكلات الاجتماعية المتفاقمة، والناتجة عن تعقّد المجتمع، وعن استعمال البعض غطاء الدين لتحقيق مآربه الشخصية، وعن تمرُّد البعض الآخر، وضربه بالقيم الدينية والأخلاقية عرض الحائط، ومناداة فريق ثالث بالقطيعة مع الماضي بصفة نهائية، وتبنّي قانون وضعي، كلّ هذا كان يتطلّب إجراء تغيير. وكاد الأمر يؤدّي إلى فتنة لولا تغليب جانب الحكمة، وتدخُّل عاهل البلاد، بصفته ملكاً، وأميراً للمؤمنين، الذي كوّن لجنة تضمّ خيرة الفقهاء والعلماء من التخصصات كافةً، إلى جانب ممثلين وممثلاتٍ عن المجتمع المدني. ولابدّ من التنصيص، هنا، على أنّ النساء كنّ حاضرات في هذه اللجنة، وأسمعن صوتهنَّ عالياً. وبهذه الطريقة، أُعيد فتح باب الاجتهاد، وكان اجتهاداً جماعياً تمّ فيه تفعيل مبدأ المصلحة، باعتبارها أداة من أدوات الاجتهاد الكبرى. ويذهب وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، الأستاذ أحمد التوفيق، إلى: «أنّ المسلمين، في وقت من الأوقات، وربّما حدّدناه في القرن الرابع، وبداية القرن الخامس الهجري، قد تخوّفوا على مصير الدين، وانعدم عندهم الشعور بإمكانية استمرار الاجتهاد». وربط ذلك بتشتّت العالم الإسلامي، وانعدام «السلطة القطبية النظرية الرمزية الدينية، لضعف الخلافة»[8]. ويعزو نجاح المغرب في إخراج مدوّنة الأسرة إلى الوجود إلى: «ضمانة أولي الأمر برمزيتهم، يعني بقطبيتهم بأن يكون لهم إمام آمر، إمام ضامن، مرجوع إليه. هذه الضمانة هي التي مكنتنا، في المغرب، من الخروج من دائرة الخوف، وإسلام الزمام، ومقاليد الأمور، لأمير المؤمنين، بصفته إماماً يرفع حكمه كلّ خلاف»[9].
إذا كان عنصر الحسم هو ما كان ينقص من قبل، لإخراج الناس إلى وضع أكثر تطوّراً، فإنّ هذا العنصر توافر مع ملك المغرب محمد السادس، الذي عرف فيه الشعب جرأته، وحكمته، وعزمه الأكيد على تطوير البلاد، والسير بها نحو الأفضل. بقي أن نتساءل عن الأسس التي اعتُمِدت في هذا الاجتهاد الجماعي في مجال الأسرة، وكيف تمّ التوفيق بين مقاصد الشريعة الإسلامية، وتطلّعات المغاربة لبناء مجتمع ديمقراطي حداثي.
بالرجوع إلى التوجيهات، التي أعطاها الملك للجنة، يتبيّن أنّ الغاية الأساسية من المدوّنة كانت بناء أسرة سليمة تُكرّم في ظلّها المرأة، وتُحترَم كرامة الرجل، وتصان حقوق الطفل. أمّا عن الأبعاد التي كان ينبغي أن تأخذها بعين الاعتبار، وتحقّق الانسجام بينها، فهي:
- الاستجابة للتحوّل المجتمعي، مع تطوير التصوّرات والعقليات.
- الحفاظ على مقاصد الشريعة الإسلامية.
- اعتبار الإطار العالمي، الذي أصبح يلزم المغرب باتفاقيات دولية.
بإعمال النظر في هذه المبادئ، يبدو جليّاً أنّ المنطلق كان الإيمان بسنّة التطوّر، وتاريخ المجتمعات يبرز أنّها تطوّرت عبر التاريخ، وعرفت تحوّلات كبيرة لم يصحبها، دائماً، تطوّر في العقليات؛ ولذلك سيكون هناك تركيز على ضرورة تضافر الجهود (جهود الجميع) لبلوغ هذه الغاية.
أمّا المبدأ الثاني، فينصّ على الحفاظ على مقاصد الشريعة. ومصطلح (مقاصد) يدلّ على إحياء الفقه المقاصدي، ما سيستدعي، بالضرورة، الاجتهاد لزمن له تحدياته، ولمجتمع له خصوصياته.
أمّا المبدأ الثالث، فيتعلّق بالإطار الدولي، باعتبار المغرب من الدول التي وقّعت على اتفاقيات دولية تلزمه بتقديم تقارير عمّا أنجزه على أرض الواقع، وبملاءمة قوانينه الوطنية بما يتماشى وما تنصّ عليه تلك الاتفاقيات. ولقد تمّت مراعاة هذه المبادئ الثلاثة بشكل لا يمكن معه القول: إنّ المدوّنة جاءت بضغوط خارجية، كما تردّد لبعض الوقت؛ ذلك أنّ وضعيّة المجتمع المغربي تغيّرت بشكل كبير في تسعينيات القرن الماضي عمّا كانت عليه في العقود السابقة، على جميع المستويات، وصار للمرأة شأن فيه، فكان من الطبيعي أن تنهض للمطالبة بحقوقها، وفي مقدّمتها حقّها في أن تُسهم فعلياً في بناء الفقه، وألّا تظل مجرّد موضوع للأحكام التي ينتجها العلماء الرجال، لاسيّما أنّه ليس ثمّة ما يمنع (من وجهة نظر الشرع) من أن تكون صاحبة نظر واجتهاد في التأسيس، والاستنباط، والفتوى، والحكم. وفي هذا الباب، هناك من رأى في دعوة بعض النساء إلى مراجعة الفقه، وتغيير بعض أحكامه، ترامياً على الميدان، لقلّة علمهنّ بالشريعة، وذهب إلى أنّ المرأة «حينما تتشبّع بالعلوم، وتُدرك، بفطرتها وفطنتها، أنّ هذه الشريعة، التي تهيمن على حياتها الخاصّة والعامّة، لا بدّ من التوجُّه إليها للتخصُّص فيها، والتمكُّن من علومها، فإنّها ستبلغ فيها درجة عظيمة، ويحقّ لها، حينئذ، أن يكون لها في قضاياها رأي وموقف»[10]. وغير خافية نبرة (التعويل على المستقبل) في هذا القول. وقد سبق لنا أن أشرنا إلى أنّ الاجتهاد المعوّل عليه، في مثل هذه القضايا، اجتهاد جماعي بشروط ليست هي، بالضرورة، الشروط نفسها التي حدّدها العلماء قديماً. وهناك من الفقهاء، وعلماء الشريعة، من نحا هذا المنحى، مثل: الشيخ يوسف القرضاوي[11]. ولا نبالغ إذا قلنا: إنّ قضية المرأة تأتي في طليعة القضايا التي حازت نصيب الأسد، من حيث اهتمام الكتّاب والمؤلفين بصفة عامّة، والفقهاء بصفة خاصّة، دون الرجوع إلى الفتاوى، التي تُبَثّ عبر العديد من القنوات الفضائية، والتي تثير، في بعض الأحيان، الكثير من الانتقادات، إلا أنّنا لسنا بصدد تقييم هذه الفتاوى، وإنّما الغرض، في هذه الورقة، تقديم أنموذج لاجتهادٍ جماعي داخل إطار مؤسساتي، أسفر عن قانون جديد، أو مدوّنة جديدة، للأسرة، تسعى، ضمن ما تسعى إليه، إلى تحقيق التوازن بين الرجل والمرأة داخل خلية الأسرة، ومن ثمّ داخل المجتمع ككل، ومن ثمّ يمكن اعتبارها ثورة هادئة ستحدث - لا شكّ - تغييرات جذرية في طبيعة العلاقات بين الجنسين.
وهنا، لابدّ من الوقوف عند ما جاء في ديباجة هذه المدوّنة، التي نصّت على أنّ الأسرة ينبغي أن تقوم على «المسؤولية المشتركة، والمساواة، والعدل، والمعاشرة بالمعروف، والتنشئة السليمة للأطفال». وتفعيلاً لهذه الفلسفة الجديدة، التي تنبني عليها المدوّنة، كان من الضروري تبنّي صياغة حديثة بدل المفاهيم التي تمسّ كرامة المرأة وإنسانيتها، كما هو الحال بالنسبة إلى كلمة (الوطء)، التي تردّدت كثيراً لدى جمهور الفقهاء. وتمّ التنصيص على أنّ الأسرة (تحت رعاية الزوجين)، وليس تحت رعاية الزوج فقط، كما كان الأمر من قبل، وهذا يتماشى، بالفعل، مع مكانة المرأة في الإسلام، التي يجليها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «النساء شقائق الرجال في الأحكام». وعلى هذا، جاء الكثير من أحكام المدوّنة لتعيد الاعتبار للمرأة، وترفع الحجر على النساء، باعتبارهنّ شريكات للرجال، كاملات الأهلية، وأصبحت الولاية، حقاً، للمرأة الرشيدة، تمارسه حسب اختيارها ومصلحتها.
كما تمّ التنصيص على المساواة بين الفتى والفتاة، بالنسبة إلى سنّ الزواج، بتوحيده في ثماني عشرة سنة، وكذلك، مساواة البنت والولد المحضونين في بلوغ سن الخامسة عشرة لاختيار الحاضن. وفي السياق نفسه، تمّ تقييد التعدُّد بشكل يمنع، قدر المستطاع، وقوع الظلم على المرأة، سواء المتزوج بها أم عليها، وكذلك الأبناء.
وصار الطلاق حلّاً لميثاق الزوجية يُمارس من قبل الزوج والزوجة (كلٌّ حسب شروطه الشرعية، وبمراقبة القضاء) مع الحرص على حقّ المرأة المطلقة في الحصول على حقوقها كافّة قبل الإذن بالطلاق، وتوسيع حقّ المرأة في طلب التطليق، لإخلال الزوج بشرط من شروط عقد الزواج، أو للإضرار بالزوجة، مثل: عدم الإنفاق، أو الهجر، أو العنف، أو غيرها من مظاهر الضرر. وتمّ إقرار حقّ الطلاق الاتفاقي تحت مراقبة القاضي، وظلّت الأم أَوْلى بالحضانة، ليأتي الأب في المرتبة الثانية، ثمّ أمّ الأم.
ومن المواد المهمّة، التي وردت في المدوّنة، والتي يتجلّى فيها الحرص على المساواة بين الجنسين، تخويل الحفيدة والحفيد من جهة الأم، على غرار أبناء الابن، حقّهم في حصتهم من تركة جدّهم.
من المواد المهمّة، التي وردت في المدوّنة، والتي يتجلّى فيها الحرص على المساواة بين الجنسين تخويل الحفيدة والحفيد من جهة الأم، على غرار أبناء الابن، حقّهم في حصتهم من تركة جدّهم
بالإضافة إلى ذلك، هناك مسألة تدبير الأموال المكتسبة من لدن الزوجين خلال فترة الزواج، وإقرار مبدأ جواز الاتفاق بين الزوجين، في وثيقة مستقلّة عن عقد الزواج، على وضع إطار لتدبير أموالهما المكتسبة خلال فترة الزواج.
لا يَخفى غرض المشرِّع من وراء هذه التشريعات، وهو بناء الأسرة على أسس متينة، وتحصين العلاقات بإعادة الاعتبار للقيم السامية، التي تقوم عليها مؤسّسة الزواج، والتي لخّصها الله –تعالى- في (المودّة والرحمة)، والاستفادة من الاجتهادات التي توخّى أصحابها تحقيق العدل، كما هو الشأن بالنسبة إلى مبدأ الكد والسعاية، الذي أفتى به أبو العباس أحمد بن عرضون، حيث ذهب إلى أنّ «للمرأة النصف في مال الزوج، إذا وقع طلاق أو وفاة، بشروطٍ شرطها، وحدودٍ حدّدها، وهو خلاف ما جرى به العمل في قبائل غمارة، إلى اليوم، من إعطاء الزوجة الربع فيما نتج بينها وبين زوجها من زرع، وماشية، وما إلى ذلك. وبنى فتواه على نظريات اقتصادية واجتماعية، وأعراف جارية عندهم منذ أزمان، وعلى أساس المصلحة المرسلة وقاعدة (لا ضرر ولا ضرار)»[12].
هناك، أيضاً، مسألة ينبغي التنبيه عليها، وهي نزع طابع (القدسية) عن قانون الأحوال الشخصية، ما أتاح إخضاعه للتحليل والتعديل بما يناسب أوضاع المجتمع وحاجاته. وهو أمر تنبّه إليه المسؤولون في وزارة العدل والحريّات، حيث طلبوا من جميع المحاكم موافاتهم بتقارير دورية منذ البدء بتطبيق مدوّنة الأسرة الجديدة حتى يتسنّى لهم قياس مدى تحقق الأهداف المتوخاة منها، وكذلك وضع اليد على أوجه الخلل حالة وجودها على مستوى النص، أو على مستوى التطبيق.
وختاماً، إنّ المغرب، بسنّه هذه المدوّنة، أعلن عن دخوله مرحلة جديدة من تاريخه، مرحلة تترسّخ فيها قيم الديمقراطية، وتتمّ التربية عليها داخل الأسرة في فترة مبكرة، قبل ولوج المدارس. ومن ثم يتبيّن أنّ الغاية من كلّ هذه التغييرات تتمثّل في الرغبة في بناء أسرة سليمة تُكرّم في ظلها المرأة، وتُحترَم كرامة الرجل، وتُصان حقوق الأطفال. ولم يكن الأمر لينجح لولا وجود ثلّة من العلماء المجدّدين، من الرجال والنساء، يؤمنون، بدورهم، في بعثة التجديد باعتبارها «دعوة كلية تعيد صياغة الإنسان، من خلال استعادة إنتاج التنزيل القرآني بمنهجيته التربوية الربانية الشاملة، بوعي علمي راشد قوامه الفقه في الدين بمعناه الكلّي»[13]. وملك حرص على القيام بالدور المنوط به، باعتباره أميراً للمؤمنين، وساهراً على حرمة الدين، ومصالح المجتمع، في الوقت نفسه؛ ولذلك كان أحرص ما يكون على تفعيل الدستور، حيث عرض المشروع على البرلمان من طرف وزير العدل، ووزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، وتمّ تأكيد مبادئ أساسية اعتمدت في صياغة مدوّنة الأسرة، وهي:
- عدم إمكانية تحليل ما حرّم الله، أو تحريم ما أحلّه.
- الأخذ بمقاصد الإسلام السمحة من تكريم الإنسان، والعدل، والمساواة، والمعاشرة بالمعروف.
- تبنّي اختيارات جديدة توافق روح التجديد الذي يدخل في إطار الاجتهاد، وفي فهم المقاصد الشرعية، التي تُحقِّق التوازن والمساواة بين الزوجين.
- ترسيخ مقوّمات أسرة مغربية وفيّة لقيمها وأصالتها، ومنفتحة على عصرها.
كما جاء في كلام وزير العدل[14]:
- إنّ ما هو معروض على البرلمان هو مشروع.
- إنّ المدوّنة تستجيب للتحديات.
- إنّ طبيعة القانون تستدعي ربطه بالتطوّر.
وكانت مصادقة البرلمان على المشروع إيذاناً بدخول المغرب، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، مرحلة جديدة من تاريخه.
المراجع:
1) ابن عبد البر، الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار، دار قتيبة- دار الوعي، 1993م، ج 16.
2) ابن رشد، الضروري في السياسة: مختصر كتاب السياسة لأفلاطون، نقله عن العبرية د.أحمد شحلان، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1998م.
3) الاجتهاد وأبعاده السياسية في مدونة الأسرة، ضمن أشغال ندوة (مدونة الأسرة: المستجدات والأبعاد)، منشورات جامعة مولاي إسماعيل، العدد 5، 2004م.
4) المدغري، عبد الكبير العلوي، المرأة بين أحكام الفقه والدعوة إلى التغيير، 1999م.
5) المرأة بين أحكام الفقه والدعوة إلى التغيير، لصاحبه عبد الكبير العلوي المدغري.
6) الأنصاري، فريد، الفطرية بعثة التجديد المقبلة، دار السلام، القاهرة، ط1، 2009م.
7) الذهبي الحافظ، سير أعلام النبلاء، ج 141 / 2.
8) عائشة بنت الشاطئ، تراجم سيدات بيت النبوة.
* المصدر مؤمنون بلا حدود