صناعة الخيبة..

صناعة الخيبة..
الرابط المختصر

 

تنجحُ الدولةُ الأردنية دائماً في صناعة الخيبة، بفضلِ تراكم الخبرة، وتوافر الشروط والعناصر، والدعم المؤسسيّ. ولا تبدو حساباتُ الخسائر واردة، في ظلّ تفاهمات قديمة بين السلطة والمجتمع على مكاسب صغيرة ومؤقتة، يصعبُ معها كسرُ المألوف، كما يسهلُ تجبير الكسور ظاهريّاً، مع بقاء الاعوجاج في العظم، وفي المشي والطريق.

 

ليس مثالاً على الخيبة، أن الدولة تعرفُ تراجعَ فرص العمل في الأسواق الخليجية، أمام عشرات الآلاف من الشباب، لأسباب تتعلقُ بالانهيارات السريعة في جودة التعليم في الأردن خلال السنوات العشر الماضية، وضعف القدرة التنافسية للجامعات الأردنية. المثالُ المُريع يشرحه تبديدُ أقلّ الآمال لشابٍ ينتظرُ دوره على قوائم ديوان الخدمة المدنية، فيتأكدُ أنّ هذا ليس المكان الصحيح والمناسب، ليجد وظيفة، فالصراع على النفوذ والمصالح بين المؤسستين التشريعية، والتنفيذية، يُقنِّنُ الفساد، فلا مساحة ممكنة للحركة، خارج هذا القانون.

 

ليسَ مثالاً على الخدمة الوطنية، أنّ وزيرَ العمل السريلانكي يجولُ سنوياً على دول الخليج العربيّ، بحثاً عن فرص عمل لمواطنيه، يحملُ ملفات، وربمّا سِيَراً ذاتية للخريجين، تتجاوبُ مع متطلبات السوق. المثالُ لا يصلحُ وصفاً وظيفياً مطلوباً من نظيره وزير العمل الأردنيّ، فهذا المنصبُ له أدوارٌ واستحقاقاتٌ أخرى، فهو يمرُّ سريعاً، ويحملُ حصّته ومغانمه، وينتظرُ إعادة تمثيل الدور على المسرح نفسه.

 

لم يحدث ما يستحقُّ إجراءَ وتحقيقاً في تفاهم الحكومة والبرلمان على مخالفة القانون بوضوحٍ تام في التعيينات الأخيرة التي تَحاصصَ فيها النوابُ مع الحكومة في وظائف لأبنائهم وأقاربهم. حدثت الخيبةُ، وأظهرت - هذه المرة - أنّ البلاد استهلكت جهداً مُزيفاً- استعراضياً في محاربة الفساد، وأسست له هيئات وأذرعاً رسمية، ثم تحالفت مؤسساتها المركزية على انتهاك القانون، ولم تأبه للتبعات. والأرجح أنها كانت مطمئنة تماماً أنّ هذا النوع من "الفساد" يجدُ تفهّماً لدى المؤسسات الحليفة الأخرى، التي تُعرِّفُهُ بـ"الوساطة والمحسوبية" وتمارسه بضجيج أقل، مثلما يتفهّمهُ المجتمع بواقعية، فهو يسعى إليه، في إطار لعبة، يفوزُ بها الاستثناءُ غالباً، وهذا كله يعلّلُ نشر المراسلات بين رئيسي سلطتين، إحداهما تراقبُ الأخرى دستوريّاً.

 

في تجلٍّ قريبٍ، كان مفهوماً أنْ يلجأ أكاديميّ إلى عشيرته، لتدافع عنه وعنها، وقد خسر منصباً إدارياً متوقعاً في رئاسة جامعة حكومية. أصدرت العشيرة بياناً مُندِّداً. فمن غير المنطقيّ أنّ تكون الكفاءةُ عاملاً حاسماً في تعيين منافسِهِ، ومن السذاجة تصديقُ ذلك، في حين يعتبرُ ديوانُ الرأي والتشريع أنّ أيّ "تعيين خارج ديوان الخدمة المدنية غير قانوني" ويسألُ رئيس مجلس النواب رئيسَ الوزراء عن تعيينات (غير شرعية) في الداخلية والخارجية ودوائر أخرى. هذا ليس سؤالاً نيابياً في سياق المهمة الدستوريّة للبرلمان، إنه سؤال استنكاريّ عن المماطلة في تعيين أبناء النوّاب، ما دام القانون ليس مرجعاً، ولا هم يحزنون.

 

في أيّ دولة، تُدركُ مخاطر الاحتقان والإحباط، بعيداً عن قيم "العدل، وسيادة القانون، واحترام حقوق المواطنة" وسوى ذلك من الإنشاء والمحسّنات البديعية، فإنّ المحافظة على يقين الناس بسلطاتهم وبعقدهم الاجتماعي يقتضي ردة فعل، ولو كانت "أبويّة" في تحويل قضية تعيينات النوّاب إلى القضاء، وليس في الاعتراف الضمنيّ، بأنّ الأمر اعتياديّ، و"حدَثَ، ويحدثُ".. وصرف النظر عنه إعلاميّاً، بتعديلٍ ركيكٍ على المادة 308 من قانون العقوبات، وبإعادة الأمل لعشرة متضررين من مزدوجي الجنسية في مشروع التعديلات الدستورية، ثمّ توزيع اليأس على بلاد بأكملها.

 

هكذا، تُعالجُ الخيبةُ بخيباتٍ أسوأ. مرّت قضيةُ فساد مؤكدة، ومدعومة بالوثائق، وأطالت الدولةُ في عُمر الحكومة حتى الانتخابات النيابية المقبلة، بتغيير وزيرين، وحتى العقد الأساسيّ المبرمُ بينها وبين المواطنة قررت أنه يستوجبُ التعديل، ليس كما كان الأمر في 2011 في حراك الربيع العربي، وليس عند خفوته في 2014، وليس لأجل مناخ سياسيّ مختلف في 2016.

 

سيرفعُ النوّابُ إيّاهم "محاربةَ الفساد" شعاراً في الانتخابات المقبلة، وسترفعُ الدولةُ ايمانها العميق بــ"طوبى لمنْ لا يتوقّعُ شيئاً، لأنّ أمله لنْ يخيب" شعاراً واقعيّاً.. للراهن والمستقبل.

 

باسل رفايعة: صحافيّ أردنيّ، عملَ في صحف يومية محلية، وعربية.