تبرز، هذه الأيام، في عصر الفوضى والاقتتال الديني والطائفي، ظاهرة دخول الحكومات العربية حلبة الصراع الذي كان يدور سابقاً بين الطوائف والفِرق الإسلامية، إذ كان الصراع على الشرعية الدينية والتمثيل الحق للإسلام من اختصاص هذه الطوائف، وكل منها يدّعي أنه يمثّل الإسلام الحقيقي، وأن الآخرين هم جزء من المؤامرة على تشويه صورة الإسلام النقية الناصعة، لذلك من حقه أن يستخدم كل الأساليب والوسائل للدفاع عن صورة الإسلام، وعدم السماح للأغيار بتشويهها حسب فهمهم الخاطئ.
وقد دارت – كما نعلم – في التاريخ الإسلامي حروب ونزاعات، وسالت دماء وتقطعت الأشلاء، ابتداءً من صفين والجمل ومروراً بالفاطميين والأيوبيين، وليس انتهاء بداعش وجبهة النصرة، وكل ذلك تحت شعار الدفاع عن الإسلام، وظهرت الأحاديث التي تعزز فكرة الطائفة الناجية من دون الناس، وحتمية انقسام الأمة إلى بضع وسبعين شعبة كلها في النار إلا واحدة في الجنة، وهي التي تكون على المنهج الصحيح من الكتاب والسنة، وما دامت كل الفرق الأخرى على الضلال فمن حق هذه الفرقة الناجية أن تتولى السلطة الدينية لتحقق حكم الله على الأرض، من خلال تطبيقها الصحيح لما أمر به الخالق وما دعا إليه.
كانت الصراعات تدور ضمن محور السباق على تمثيل الإسلام، وكان ذلك متوقعاً من طوائف وفِرق تقوم على فكرة أن الدين هو الحَكم في شؤون الحياة، وأن تطبيق تعاليمه فرض عين على كل مسلم، أي ضمن مفهوم الحُكم لله كما كانت في عصر الخلافة الراشدة.
تطل اليوم ظاهرة آخذة بالتوسع، وتتمثل بانخراط الأنظمة العربية في تنافسٍ ديني مع هذه الطوائف والفِرق، حيث ينقل الرؤساء العرب الصراع من وجهه السياسي والاقتصادي إلى وجهه الديني، ويتغير الخطاب من الدفاع عن مصالح وطنية وعلاقات دولية إلى دفاع عن صورة الإسلام في وجه من يريدون تشويهه، ذلك أن هذه الأنظمة لم تقم أصلاً على أسس دينية بحتة، بل على أسس السعي لإقامة الدولة المدنية ودولة المواطنة، ومن هنا يظهر لنا وجه التناقض بين المقدمات والنتائج.
السؤال الراهن الذي يستدعي الخوف هو: هل نجحت الحركات والفرق الدينية في جر أرجل الحكومات العربية إلى دائرة الصراع الديني؟ وهل دخلت الحكومات والأنظمة العربية اللعبة من دون وعي؟ أم هل دخلت من باب التكتيك للمرحلة ومتطلباتها؟ فإذا كانت قد دخلت دون وعي، فهذا يحسب لتلك الفرق وذكائها في فرض شروط اللعبة، وفرض زمانها ومكانها، مستغلة الظروف السياسية والاقتصادية والثقافة العربية والتربية الدينية لدى أفراد المجتمع، حيث يصبح التنافس على كسب ثقة الجماهير هو معيار النجاح والفشل.
ويحسب لهذه الحركات أيضاً أنها استغلت الظروف الصعبة التي تعيشها الأنظمة العربية وحالة الضعف والفشل في بناء الدولة، ثم حالة الانفصال بينها وبين شعوبها، وعدم قدرتها على تحقيق العدالة بين المواطنين، وحالة التهميش والظلم والاستبداد الذي يشعر به الناس في علاقتهم مع تلك الدول. وإذا كانت أنظمتنا قد دخلت من باب التكتيك لتجاوز المرحلة الراهنة فإن ذلك أشد خطورة في قادم الأيام، حيث ستكون غير قادرة على تغيير مسارات الصراع بعد الدخول في النفق، وستكون غير قادرة على تغيير شروط الحوار وما ينتج عنه.
إن ما أراه وما أسمعه من تصريحات لكبار المسؤولين العرب يثير الخوف فعلاً، حيث لم يعد هناك فارق بين خطابها وبين خطاب داعش وغيرها من الحركات، فالكل مستميت في الدفاع عن صورة الإسلام، والكل يدّعي الحق في سحق الآخر لتبقى صورة الإسلام ناصعة، والكل لن يسمح للآخر بتشويه صورة ديننا الحنيف. فهل سيكون علينا أن نلون وجوه الملايين وأجسادهم باللون الأحمر من أجل تبييض صورة الإسلام؟ وهل علينا أن نموت بمئات الآلاف ونتشرد بالملايين ليبقى الإسلام حياً ولا يمسه أذى؟
- كاتب وباحث ورئيس قسمي اللغة العربية والصحافة في جامعة فيلادلفيا. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.