شعوب ممغنطة
منذ الانقلاب على الملكية، لم يحكم مصر سوى رؤساء ينتمون الى المؤسسة العسكرية، والرئيس الذي جاء مدنياً، كان بالامكان تقويم اعوجاجه عبر الخروج الى الميادين والمطالبة بتعديل سياساته؛ لا اسقاطه.
الفرق بين حالة مبارك ومرسي، ان الثاني جاء نتاج انتخابات غير مزورة، فكيف يتم اسقاطه بقرار عسكري، ولماذا لم يبق حتى يتم الاستفتاء عليه عبر صناديق الاقتراع، بدلا من الاطاحة به بهذه الطريقة التي تقول: إن مصر لن تقبل رئيساً بعد ذلك؟!.
السلفيون وهم جماعة اسلامية متشددة، انقلبوا على الرئيس؛ باعتبارهم سيحصلون على حصتهم من الكعكعة، والمؤكد ان الدور سيأتي لاحقا على ذات السلفيين، لانهم ينتمون الى شجرة سياسية واحدة، بل ان الاخوان المسلمين هنا اكثر اعتدالا مقارنة برفاقهم السلفيين؛ الذين انقلبوا وشاركوا في زفة الانقلاب ومزاميره، التي سنسمعها لاحقا في جنازتهم السياسية.
هذا انقلاب عسكري في مصر، ولايمكن تسميته بغير ذلك، ولو لم يكن انقلاباً، لما تم التوسع في قرار الجيش بعزل الرئيس، نحو وقف القنوات الاعلامية التلفزيونية الاسلامية، ونحو اعتقال قيادات من الجماعة، والحزب، وملاحقة كل رموزهم.
في المشهد ظلال انتقام من المؤسسة العسكرية، على خلفية الاطاحة بمبارك، واذا سألت الشعب المصري، كيف تمكن من التوّحد، خلف شعار اسقاط الرئيس، من الفلول والسلفيين والاتجاهات الاخرى، يحكون لك الف سبب، ولاسبب يقنع ان الانقلاب هو الحل؟!.
من هوالرئيس المصري الذي سيأتي ويصمد بعد اليوم، مادامت الانقلابات تلتهم الرؤساء، من كان شرعياً، ومن جاء عبر التزوير؟!.
القصة المصرية تثبت ان تجاوز اي مؤسسة لدورها الاساس، على مؤسسة اخرى، سبب في تدمير اي بلد، فالجيش في مصر لم يتصرف باعتباره تابعاً للرئاسة، بل كان نداً للرئاسة، وانقلابياً، تحت مسمى عاطفي يقول: انهم حماة مصر، وكأن الاخرين خونتها!.
من حق المصريين اسقاط اي نظام ظالم، غير ان لا احد يروي لك اسباباً مقنعة لاسقاط رئيس في عامه الاول، فيما ذات الشعب صبر على مظالم سابقه ثلاثين عاما، وعام واحد في الحكم، يستوجب تعديل المسار لا الاسقاط والانقلاب،وكأنها باتت موضة.
الخاسر في كل هذا هو مصر؛ لان البلد تدب فيه الفوضى والانقسامات والكراهية والتراجعات الاقتصادية والتراشق الديني، والفرقاء سيواصلون الحرب ضد بعضهم بعضا، ومايقبله فريق سيرفضه فريق آخر، وهذا يقول: إن المعاناة في مصر مازالت في بداياتها.
سيأتي رئيس جديد، لكنه سيكون تحت حكم العسكر، وتحت مطارق الاتجاهات السياسية الاخرى، وعامة الناس وتطلعاتهم، ولن يصمد في موقعه، الا هشا؛ لأن التقسيم الداخلي بلغ مداه، بعيداً عن الكلام العاطفي وشعارات التغيير البراقة.
ليس دفاعاً عن الرئيس المعزول، لكنه سؤال مشروع، حول هذه الشعوب التي تتم مغنطتها ببساطة، فيما تنتحر عملياً، على مذابح الخلافات والاختلافات، وتعتقد ان التورط في مستنقع الانشقاق الداخلي، امر هين، يمكن الخروج منه في يوم وليلة.
الجيش ذاته على مشارف تفكيك وانزلاق في مستنقع الخلافات الداخلية، وقد يكون مخططاً دفع الجيش الى الانزلاق في حرب داخلية دموية؛ ليلتحق بجيشين عربيين مهمين، تم تفكيكهما وتدميرهما بوسائل مختلفة، وهنا نقصد الجيشين العراقي والسوري.
مصر دخلت للتو اسوأ مراحلها، ولدينا رئيسان معتقلان، لاعتبارات مختلفة، ولعل المفارقة اننا نفهم لماذا تم اعتقال الاول، ولانفهم لماذا تم اعتقال الثاني، الا اذا كان اعتقال الثاني، ثأرا للاول، عبر تغطية شعبية، فيما الرئيس المقبل معتقل سلفاً لارادة الجيش؟!.
لو كان الرئيس المعزول المنتخب شيوعياً، لقلنا ذات الكلام عنه، لحظة الانقلاب عليه، لاننا ندافع عن المبدأ لا عن الشخص، وذات الرئيس المعزول لم يسلم من نقدنا اللاذع، غير ان الانقلاب امر آخر، ولايمكن شرعنته.
شعوب ممغنطة، وقابلة دوماً لمبدأ القسمة على اثنين، ونحن أمة نصنع أصنامنا من التمر، ثم نلتهمها عند الجوع بكل شغف.
الدستور