سوناتة الصيام والانتقام
مضى رمضان بفوانيسه وأهلته ونجومه المضاءة التي زيّنت أسوار الشُرُفات والنوافذ في بيوت الغالبية الساحقة من أبناء وبنات شعبنا الطيب الكريم. مع خفوت تلكم الإضاءة الصناعية خفتت المشاعر والبواعث الاصطناعية التي تملّكت أيضاً السواد الأعظم من الناس.
بعض المساجد عادت إلى سابق عهدها بالكاد يمتلئ فيها الصفان الأولان، وعاد “زبائن رمضان” –كما يحلو لبعض المشايخ أن يطلقوا عليهم- إلى حياتهم الطبيعية حيث التصرف والتحدث بتلقائية دون التكلّف الذي تمليه الطبيعة المقدسة للشهر الذي يود كل ظالم لنفسه أو غيره أو من ظلمته وما تزال الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية... اغتنامه علّه يكون من “عتقائه” أو أن يحظى بأنوار ليلة القدر فيلقى دعاؤه بالفرج والانفراج طريقاً إلى السماء فتتحسن أحواله وتتحقق أحلامه.
الغلو في التشبث بالروحانيات لضعف الإمكانيات الفردية والمؤسسية والحياتية قد يكون أمر مفهوم في ضوء الثقافة السائدة التي تحيل كل فشل إلى القضاء والقدر وتنسب كل نجاح إلى “الفهلوة والجد والعمل”، إلا أن ثمة جانب آخر يبرز في رمضان أكثر من غيره؛ ألا وهو الإرهاب الفكري والاجتماعي المتجذر في الضمير الجمعي لغالبية من تتاح لهم الفرصة لإظهاره وإخراجه من قمقمه الهش الشفاف. نظرات الازدراء والاحتقار التي يحظى بها كل مفطر في نهار رمضان والانتهاكات النفسية بل وربما الجسدية التي قد تصاحب أو تعقب تلكم النظرات؛ إنما تعد مؤشراً على دكتاتورية التدين التي تتسم بها مسلكيات جانب كبير من جموع الصائمين الذين يريدون الجميع صائماً لأنهم صائمون وليس لأنهم هيئة مكلفة من الحاكم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في المقابل، تجد جماعة غير الصائمين يلجؤون إلى أسباب تجميلية تبرر عدم صيامهم من مثل: المرض والأدوية التي لا يمكن تغيير مواعيدها والسفر... وليت هذه الأسباب تجدي نفعاً مع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المجتمعية، إذ أن من يعزو فطره لأي من هذه الأسباب لن ينجو من التوبيخ الدنيوي على مجاهرته بالإفطار وسوف يجابه بالأكلاشيه القديم الجديد: “إذا بليتم فاستتروا”.
لماذا تقبل شلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الرمضانيّة وجود جموع لا تقيم الصلاة ولا تؤتي الزكاة ولا يتم ممارسة ذات اللعبة الاستبدادية الإرهابية معها؟ هل لأنهم –أي شلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- لا يصلون؟ أم لأنهم يعتبرون أن عدم الصلاة لا “يؤذي مشاعرهم المرهفة الحساسة”؟ إذن فالمسألة تتعلق بالذات والأنا التي تستكثر رؤية الغير يأكل ويشرب في حين أنها تعد الثواني والدقائق في انتظار آذان المغرب لتحرر من جوعها وعطشها؟ لست أدري إن كان هذا الأمر يستوقف “المطوّعين” المتطوّعين الذين يعلمون أو ربما لا يعلمون أن ترك الصلاة أشد وطأةً وعاقبةً من ترك الصيام!
يشكل رمضان لدى الكثيرين فرصةً سانحةً لممارسة التسلط والقهر اللذان تغذيهما منظومة كاملة غير متكاملة من النقول اللفظية والعملية، بحيث يجد المقهور من ظروف الحياة وأعبائها التي قد لا يكون له طائل في تغييرها؛ متنفساً لنقل قهره وكبته وتسلط غيره عليه إلى ضحياه ممن اختارروا عدم الصيام أو أرغموا على ذلك بحكم ظروفهم الصحية أو المكانية.
المدهش أن الكثيرين يحفظون عن ظهر قلب الأحاديث والآيات التي تعطي للصائم رخصة الإفطار في السفر ويحفظون معها حديث “ليس إمبر إمصيام أمرجل في إمسفر”، وحديث: “إن الله يحب أن تؤتى رخصه”، ومع ذلك تجدهم يصرون على الصيام أثناء السفر ضاربين بعرض الحائط هذه النصوص معتبرين أنفسهم أكثر حكمةً من الشارع نفسه الذي أمرهم بالصيام! هذا التعذيب للنفس مرده أيضاً رغبة كامنة في التسلط على الذات وقهرها، لذلك تجد الكثيرين من هؤلاء “الغلاة المتنطعين” يقولون: “ولم الإفطار ونحن قادرون على الصيام”!
الفيصل بين المجتمع العلماني والمجتمع المتزمت أن الأخير يشعر بعقدة ذنب جماعية لرؤية أي مخالف في المعتقد أو السلوك، بينما يرى الأول في المخالفة والختلاف تنوعاً يثري الحياة الاجتماعية ويرسخ دعائمها التي تحمل الجميع وتتحملهم دون أن تضيق ذرعاً بصائم أو مصلٍ أو معتكف، فإلى متى يحتفل المجتمع بسواده الأعظم بطقوس تكرس الإرهاب واستئصال الآخر مدعوماً بمباركة جمعية من المقتنعين والمتخوفين من المجاهرة بخلاف ما تفرضه الجموع المتسلطة، ناهيك عن مباركة رسمية رعتها الدولة لأمد طويل وما تزال كانت في زمان مضى تقضي بضرب المفطر وحلق شعره بالكامل وإيداعه السجن إلى ما بعد عيد الفطر.
عجيب كيف يغض “الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر” الطرف عن حقيقة شرعية يحفظونها عن ظهر قلب تقول؛ “أن عمل ابن آدم كله له إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به”، ليطلقوا العنان لأحكامهم وجزاءاتهم على كل من يخالفهم، تلكم الأحكام والجزاءات النابعة من بوتقة القهر والكبت والاستسلام لمسلمات حظروا على أنفسهم وعلى غيرهم مجرد مناقشتها بل وتأملها في خلوة مع النفس، إذ سرعان ما ينتفض من تجرؤ نفسه “الأمارة بالسوء” على فعل ذلك فيستعيذ من الشيطان ويبصق عليه ثلاثاً علّ بصقاته تخمد لهيب أفكاره المستعر وصليات تأملاته المشروعة منطقاً والمحرمة نطقاً وفكرا، لتمضي سوناتة الصيام ولانتقام في طريقها صولو يأبى -ولو شاء عازفها- أن ترافقه أي ألحان رئيسية أو ثانوية أخرى.
مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.