زلزال باريس: الارتدادات في القارة الأوروبية

زلزال باريس: الارتدادات في القارة الأوروبية

تترك أحداث باريس الإرهابية آثاراً مهمة عدا عن الضحايا الأبرياء، قد يكون من أهمها إعادة طرح التساؤلات حول اندماج عرب أوروبا في مجتمعاتهم، وإعادة النظر في آليات الاتحاد الأوروبي، إضافة بالطبع إلى الآثار الاقتصادية والأمنية.

 

الثابت أن هجمات باريس لم تكن الأولى، وشبه اليقيني أنها لن تكون الأخيرة، ما دامت داعش تهدف إلى شبكة من الأهداف بمثل هذه الضربات، من بينها محاولة تخفيف ضغط الضربات الجوية عليها، ومحاولة جرّ الجيوش الغربية إلى حرب برية، وفوق ذلك هي تريد أن تتسبب هجماتها في عزل عرب أوروبا عن محيطهم، ووضعهم ضمن دائرة الشك والضغط، فيزداد عدد مؤيدي داعش بينهم ويرتفع معدل التجنيد.

 

ويبدو رد الفعل الفرنسي الأولي ضمن ما تريده داعش إلى حد بعيد. حديث الرئيس فرانسوا أولاند عن تعديلات دستورية يشابه إلى حد كبير حديث الرئيس جورج بوش بعد هجمات سبتمبر عن تعديلات تشريعية لحماية الأمن الأمريكي. الإعلام الفرنسي لا يحاول أن يكون حذراً في التفريق بين المسلمين والإرهاب ولا يستخدم ما يكفي من الجمل الاحترازية. حملات الاعتقالات تطال أقارب وأصدقاء منفذي الهجمات وتأخذ شكلاً استعراضياً أمنياً في الأحياء العربية تحديداً. الأسوأ هو أن الجاليات العربية والمسلمة في فرنسا ما تزال غير معنية بالتمايز عن داعش. الخلاصة أن الأجواء مليئة بالشكوك والاتهامات غير المنطوقة، حتى الآن على الأقل. يرد بعض العرب بالقول إن السلطات الفرنسية والأوروبية عموماً هي التي سمحت لبعض الجهاديين الأوروبيين بالتوجه إلى سوريا حيث ازدادت راديكاليتهم هناك، وهذا صحيح جزئياً، لكن معظم المنفذين في هجمات باريس لم يذهبوا إلى سوريا.

 

في عموم القارة الأوروبية يتساءل المواطن العادي عن النقطة الأكثر إثارة للقلق بالنسبة إليه: منفذو الجريمة في فرنسا كان بينهم عرب فرنسيو المولد والنشأة! هذه الحقيقة كانت أهم بكثير لدى الأوروبيين من الجريمة بحد ذاتها، خصوصاً إذا عرفنا أن عدد مسلمي أوروبا يفوق 50 مليوناً، منهم نسبة مهمة في فرنسا وبريطانيا وألمانيا والسويد. فإذا كان المولد والنشأة لم يشفعا لفرنسا لدى هؤلاء الشبان فإن ذلك يعني أن مسألة التعايش والاندماج عليها علامات استفهام كبيرة، ويعني أن نسبة غير معروفة من العرب قد تكون مستعدة للتبرير للإرهاب في الدول التي تعيش فيها، بل وقد تكون حاضنة اجتماعية له.

 

وحتى تكتمل الصورة لابد لنا من أن نتذكر أن أوروبا تعيش موجة لجوء ضخمة دفعت بعض الدول إلى إجراءات تخالف اتفاقية التنقل الحر ضمن دول الاتحاد الأوروبي، الشنغن، وهي مشابهة للإجراءات التي طبقتها فرنسا بشكل عاجل مباشرة بعد الهجمات عندما أعلنت إغلاق الحدود. بعض السياسيين الأوروبيين وصل إلى حد المطالبة بإعادة النظر في اتفاقية الشنغن بمجملها، مما يضع المزيد من الضغط فوق الاتحاد الأوروبي الذي يعاني أصلاً من الكثير من المشاكل، وأكثر من ذلك كانت هناك بعض التحذيرات من أن بعض الإرهابيين قد يتسللون بين اللاجئين.

 

فرنسا بالذات كانت على الدوام موضع انتقاد بسبب سياساتها إزاء المهاجرين الذين بدأوا بالتوافد إليها منذ سنوات الاستعمار. وتظهر معظم الدراسات الأكاديمية الخاصة بمشاكل الاندماج أن النموذج الفرنسي في إدماج المهاجرين في المجتمع ليس من بين أفضل النماذج، حتى لا نقول أنه من أسوأها. فرنسا بالذات تشهد كل عدة سنوات ما يمكن وصفه بثورات الضواحي، حيث تقع أعمال عنف وشغب تعبيراً عن إحباط شبان تلك الضواحي-التي يسكنها في الغالب مهاجرون من مختلف الأصول- بسبب البطالة والفقر والظروف السيئة. تتكرر صورة تلك الضواحي في عدد من دول أوروبا بشكل أخف مما هو في فرنسا.

 

تمتد إشكالية العلاقة بين عرب أوروبا ومحيطهم في أنحاء القارة كافةً، رغم أنها تتفاوت في حدتها من دولة إلى أخرى ومن منطقة إلى منطقة. ويمكن القول إن أخطر الأوضاع وأكثرها قابلية للانفجار هي في فرنسا وبلجيكا، ولعل من المفيد التذكير بأن حزب الجبهة الوطنية اليميني بقيادة ماريان لوبان حصل على 25% من أصوات الفرنسيين في آخر جولة انتخابية، متقدماً على جميع الأحزاب الأخرى. وتبدو الأوضاع صعبة كذلك في معظم دول أوروبا، وتزداد صعوبة مع كل عملية تفجيرية. ويتفاقم الموقف مع أخطاء السلطات ومع حملات التشكيك في العرب والمسلمين من ناحية، ومع امتناع عرب أوروبا بالمجمل عن اتخاذ مواقف حقيقية وواضحة تمايزهم عن الإرهابيين. يمكن هنا لفت الانتباه إلى أن المهاجرين من أصول أفريقية أو لاتينية أو شرق أوروبية أو آسيوية لا يخرج من بينهم من يمارس عمليات إرهابية، رغم أنهم يعيشون في الضواحي الفقيرة نفسها التي يعيش فيها العرب.

 

هجمات باريس تلفت الانتباه إلى مشاكل خطيرة تعانيها المجتمعات الأوروبية، وإلى مدى الانقسامات العمودية فيها، وهي انقسامات تسعى الجماعات الإرهابية إلى تعزيزها وتعميقها واستغلالها إلى أقصى درجة. غير أن ما يدعو للتفاؤل هو أن القوى التقدمية في أوروبا بدأت في التخلص من موقفها المتردد في الحديث بانفتاح عن مسائل الهجرة والاندماج، وبدأت تطرح الموضوع للنقاش من وجهة نظر إيجابية بعيدة عن العنصرية سعياً للوصول إلى معالجات واقعية وفعالة، وبغير ذلك فإن أوروبا مقبلة لا محالة على موجات متصاعدة من الصدامات الأهلية.

 

علاء الفزاع: كاتب أردني مقيم في السويد

أضف تعليقك