رسالة إلى الله

رسالة إلى الله
الرابط المختصر

 

   لقد تفوقت السينما المصرية في مطلع ستينيات القرن الماضي حينما تم إنتاج فيلم نوعي بعنوان "رسالة إلى الله"، أخرجه الراحل كمال عطية وكتب قصته ابراهيم زكي مراد أما السيناريو والحوار فلعبد الحميد جودة السحار، وكانت البطولة للعظيم حسين رياض. هذا الفيلم يعالج مسألة تدور في كل عقل وخاطر ولكنها ما أن تصل لطرف اللسان حتى تنغلق الشفاه عليه لتحبسه وتلجمه لتعود الكلمات خائبةً إلى العقل الذي ما يبرح يصارع من أجل البحث عن إجابات لأسئلة أقل ما يقال عنها أنها مشروعة، بل هي نتاج طبيعي لوجود العقل والتفكير.  يحكي الفيلم قصة طفلة صغيرة كانت كغيرها من الأطفال تلح على أبيها بأسئلة عن الوجود وشكل الله ومكانه... سألت الطفلة أباها يوماً إن كان الله يستطيع أن يجعل دميتها تتكلم، فأجابها بأنه يستطيع. قامت الطفلة بكتابة رسالة بريئة إلى الله تطلب منه أن يُنطِق دميتها الصغيرة.  وذات يوم صعدت الطفلة فوق مئذنة مسجد لتكون أكثر قرباً من السماء لعل الله يستجيب لندائها ويجعل دميتها تتكلم. سقطت الطفلة من فوق المئذنة وإصيبت بشلل نصفي وتحطمت دميتها. كان تحطم دميتها سبباً في صدمة نفسية أفقدتها القدرة على الكلام. وتمضي أحداث الفيلم لتنتهي نهاية سعيدة –كما هو الحال دائما في أفلامنا العربية- فتزوجت من صديق طفولتها وحملت بجنين وتعرضت لمخاطر هددت حياتها أثناء الوضع. أمسك الأب بورقة وقلم وكتب رسالة إلى الله يطلب منه أن ينقذ ابنته ونشرها في الصحف، ويشاء المخرج أن يُنقذها لتنجب بسلام وينطلق لسانها من جديد.

   إن هذه القصة تعالج قضيةً فطريةً تأبى ثقافتنا التعامل معها والتطرق لها، إنها قضية البحث عن الحقيقة... حقيقة الوجود وأسرار تجليات خالقه. لقد كان أول ما سألتني عنه صغيرتي وهي في سن 3 سنوات هو: "أين الله؟ لماذا حين إناديه لا يجيب؟ ألا يسمعني؟ إن كان يسمعني فلماذا لا يجيبني؟ هل هو عجوز؟ من أكبر يا بابا، أنت أم الله؟...". أسئلة لم أتهرب منها مطلقا ولم أتمكن من إجابتها أبدا. وأسأل نفسي أحيانا، "ماذا تظن ابنتي في أبيها؟ عجزاً معرفيا؟ سراً يحاول أخفاؤه عنها؟ ولماذا؟". المدهش أن هذه الأسئلة الفطرية تحيا مع كثيرين منا وتموت بموتنا دون أن يُكتب لها أن تجري كلمات على لسان أو مداد على ورقة صغيرة، والويل لمن تجرأ وفعل، فهو إما زنديق أو متشكك أو كافر.

لأنني أحب الله ولا أريد أن أراه إلا كما أرضاه، فإنني أرسل إليه رسالتي الآتية:

                 إلى الله:

   أستميحك عذراً إن كنت سأتجاوز في خطابي بعض البروتوكولات اللغوية التي يستخدمها الذين يسلّمون بكل ما حفظوه ولُقِّنوه في صغرهم. إنني ممتن لك كثيراً لأنك وهبتني عقلاً أردت له أن يكون الفارق الأبدي والأصيل بيننا وبين سائر مخلوقاتك وموجوداتك في كونك المتلاطم بأمواج الغموض والحيرة. ويجب أن نستثمر هذه النعمة من لدنك بأقصى ما نستطيع، وأنت أحق من تُستثمَر فيه هذه الهبة العظيمة. لقد خاطبتنا من وراء حجب وبغيب اخترت أن لا يطلع عليه سوى صفوة من خلقك، ثم طلبت منا أن نتفكر في ما جاءوا به من عندك. وجعلت الفيصل في الوصول إلى الحق والحقيقة إعمال هذا العقل الذي وهبتنا إياه. والواقع أن ما خلقت ووهبت لنا –أعني العقل- يطلبك ويسعى لمعرفتك لأنك خلقته هكذا؛ طالباً للحقيقة باحثاً عنها ساعياً لكنهها وجوهرها. وإن أسئلةً تدور في عقول كثيرين منا لم نجد لها جواباً يرضي هذا العقل ويشبع رغبته الجامحة لمعرفة ما خفي عنه:

1-. "التفكر طريقنا إلى الحقيقة وسبيل الهلاك!". لماذا نجد أنفسنا في موقف يتطلب منا أن نعطل عقولنا وإلا فإننا نصبح بمنأى عن الرحمة وفي مرمى النقمة؟ لماذا يسأل الصغار ويستجير الكبار فلا يجدوا مجيباً ولا مغيثا؟ هل حقا يجب أن نسلّم بشعارات: "إيمان العجائز... السؤال غير جائز... العقل عاجز....". هل حقاً هذا هو المراد؟ هل يجب أن نكون أوعيةً تلقف ما يلقى فيها؟ لماذا إذن وُهبنا عقلاً يتدبر ويفكر؟ إنني وغيري حتماً لا نطلب الرؤية جهرةً كما طلب أقوام من قبلنا، ولا نطلب أن يُنزّل علينا من السماء نبأً أو خبرا، ولا ننتظر مهدياً ولا رسولا... كل ما نريده أن لا نكون مجرمين حينما نبحث عن الحق والحقيقة...

2-. "الحكمة"، هل حقاً أن كل سؤال نعجز عنه جوابه: "لحكمة"؟ هل تشرد الأطفال وتعذيبهم واغتصابهم له حكمة لا نعرفها؟ أين أثرها؟ إن الأطفال والناس الفقراء يموتون ويداسون منذ قرون دون أن يحدثنا أحد بعدهم عن حكمة ما جرى لهم؟ هل صحيح أنالسماء تُنزل عليهم غضباً بسبب فساد عمّ فيهم؟ فلماذا يذهبون ويبقى الفاسدون؟ لماذا هم وقود كل حرب وكفارة كل ذنب؟ هل صحيح ما قاله المعتزلة وغيرهم من الفلاسفة الذين يلتمسون جواباً بل عذراً لكل هذا؛ أن الله  خلق الكون ثم تركه؟ فلماذا يُخلَق إن كان سيُترَك؟ لماذا تطلب جهنم المزيد من أناس كل ذنبهم أنهم ولدوا على غير الدين االمُرتضى؟ هل كل إنسان لديه القدرة على البحث والتحري ليعرف أن دين أبويه ليس صحيحا وأنه يجب أن يهجره للدين المنجي من العذاب وسوء العاقبة وشديد العقاب؟ ألسنا صنعة إلاه رحيم؟ ألسنا من بوهيت بنا الملائكة؟ لماذا يُترَك من يبحث يغرق في لجج من الحيرة والعذاب،وينجو من ألقى بعقله تحت قدميه دون سؤال ولا جواب.

3-. "العدل المطلق". أليس الجزاء من جنس العمل؟ لماذا من يبحث ويضل سبيله بضع سنين يخلد في نار وعذاب أليم؟ لماذا يرجم الزاني والزانية؟ هل ليموتو؟ لماذا لا يموتون كما يموت القاتل بضربة سيف أو بحبل؟ أليس القتل أشد من الزنى؟ أليست "الردة" أشد من كليهما؟ فلماذا يدفن إنسان في الرمال ثم يتعاقب على رأسه المتعطشون للدماء قذفاً بحجارة الأرض حتى يموت؟ هل من عذابات بعضنا ينجو بعضُنا؟ لماذا يُترَك من يحكمون ويتحكمون باسم الإلاه  ينكلون بمن خلق؟ هل في قطع الرؤوس والضرب بالفؤوس حكمة تعجز عن إدراكها النفوس؟

4-. "الدنيا زينة، يجب أن ننبذها ونزهد فيها".لماذا يتم تعجيزنا ؟ لماذا يحرم علينا من ينطقون باسم الإلاه  كل جميل وأصيل؟ لماذا الموسيقى والرسم والنحت والغناء حرام؟ لماذا المرأة عورة يجب سترها وفتنة يلزم درؤها؟ لماذا يجب أن نصدق رويات أتتنا عبر قرون على ألسنة بشر يصيبون ويخطئون يتذكرون وينسون يصدقون ويكذبون؟ لماذا نعيش في فزع وقلق لا ينتهيان إلا مع زفراتنا الأخيرة؟ لماذا لا ندري هل تنجينا صلواتنا وصيامنا وزكاتنا من رهيب العذاب وأليم العقاب؟ هل نتعبد لننجو من النار وندخل الجنة؟ أين خالص المحبة وصافي المودة المنزهة عن طمع في ثواب وفرار من عقاب؟ أم ترانا نتعبد لننال ما نريد من مآرب ومطالب؟ هل أسأنا الفهم والمقصد؟ هل نبحث عن الإلاه في كتبه أم في خلقه أم في كونه أم في حكمته التي لا ولن نعرفها؟

5-. "ولا تزر وازرة وزر أخرى". هل صحيح أن تسونامي الذي حصد عشرات الآلاف من الفقراء والمساكين والأطفال كان غضباً من السماء  لسوء ما يُرتكب في تلك البلدة البائس أهلها؟ هل هم كقوم عاد وثمود ولوط؟ هل جنى أطفالهم وفقرائهم ذنبا؟ هلصحيح ما يدعيه "المنظّرون" حينما تزلزل بلداً أو يُغمر بالماء أن هذا "محض انتقام لأنهم غير مسلمين"، وحين يحل الشيء نفسه ببلدانهم يقولون: "حكمة... ليميز الخبيث من الطيب... لأننا عصاة...". أهكذا هي السنن في الخلق والخليقة؟ هل فعلاً هذه هي الحكمة؟ أم أننا نخترع حكماً  اختلقناها لتنام جفوننا على أعين دارت وحارت فلم تصل إلى شيء؟ لا شيء... لا شيء... لا شيء.... ألم يعث التاتار فساداً وإفسادا في بلاد أهله مسلمون؟ ألم يجع الناس وماتو في عهد عمر؟ هل كان ذلك اختبارا وابتلاء؟ وهل حين يحل بغيرنا يغدو انتقاماً وبلاء؟ ألسنا جميعاً صنعة يدي الإلاه؟ أليس فينا جميعاً نفخة من روحه؟ إذا مرض من عصا فهذا عقاب معجل، وإذا مرض من أطاع فهو ابتلاء يستوجب التحمّل! إذا شفي المطيع فهي نعمةوفضل، وإذا شفي العاصي فإمهال وتمهل!

   هل أستمر؟ كلا... إني خائف خوف المترقب من مترصد يحوم حوله لينقض عليه مطبقاً على عنقهفي ظلمات الحيرة والتفكير... هل سينزل بي عقاب على رسالتي؟ هل سيُسلَط علي جوقة من خلفاء السماء لينكلوا بي ويقدموني قرباناً على مذبح غيبالأسرار والحِكَم التي لا تُدرَك؟ هل سأُسقى من ماء الحميم وأتلقم طعام الزقوم؟ هل سأهوي في النار سنين عددا تفوق ما عشته في هذه الدنيا باحثاً ومتسائلا؟ هل يحبني الإلاه؟ هل يكرهني؟ هل يعبأ بكل ما أقول؟ هل سيجعلني عبرةً يتحاكى بها الناس ويسبحون بحمده حينما يروانهايتي التي قد يجعلها قصةً تتواترها الأجيال؟ هل سيُسلَط على عقلي مس من جن أو جنون فيكبّر تجار الدين ويقولون: "تكبير... الله أكبر... منتقم جبار... هذه نهاية الفجّار... لا يفلح الكفار... سبحانك: من تهن فما له من مكرم..."؟ هل سأكون عِظةً تروى على المنابر وتصدح بها الحناجر؟ هل أستمر؟ هل أصمت وأذهب لأتوضأ وأقف بين يديك وكأن شيءً لم يكن؟ هل ما في صدري وفي خاطري مشروع وإن نطق به لساني بات ممنوع؟

   إمضاء: باحث عن الصفات وليس الذات.

أضف تعليقك