ربنا يجعله عامر

ربنا يجعله عامر

 

هذه العبارة الشهيرة التي يجامل بها الناس بعضهم بعض كلما طعموا أو شربوا أو أُهديَ لهم شيء، استخدمها الفنان عادل إمام في أحد أفلامه في عقد الثمانينيات؛ حيث كان يقول: "“ربنا يجعله عامر" في كل مرة كان يقبض ثمن لعبه لدور “التيس المستعار” أو “المحلل” لبعض رجال الأعمال الذين كانوا يطلّقون زوجاتهم طلاقاً بائناً ثم يرغبون في إعادتهن إلى عصمتهم مرةً أخرى.

يعد فيلم “زوج تحت الطلب” نموذجاً يكرّس ممارسةً وصوليةً مبتذلةً لا تنتهي منذ غابر العصور وحتى اليوم في مجالات شتى، فهناك زوج تحت الطلب، وموظف تحت الطلب يطيع ما يؤمَر به ويُسمِع مديره ما يحب سماعه، وهناك مدرس تحت الطلب؛ يدخل الحصة ليتلو ما حفظه من منهاج على مسامع طلبته ولا يهم من فهم ومن لم يفهم ومن فهم تراه ماذا فهم... وأخيراً وليس آخراً هناك شيخ تحت الطلب وهذا أقبح وأخطر فرد في شلة تحت الطلب الانتهازية.

كثيراً ما كان يتساءل البعض عن سر دعاء بعض أئمة الحرمين على المنابر للمقاتلين الأفغان في فترة ما ثم الإحجام عن ذلك في فترة أخرى؟ وعن الدعاء للمقاتلين في فلسطين إذا كانت الصلاة منقولةً على الهواء والإحجام عن ذلك إن لم تكن منقولة؟ وعن تحريم الغناء والموسيقى ثم “التطنيش” عن إقامة حفلات موسيقية وغنائية تحت رعاية الدولة؟

لقد كان لبعض مشايخ الأزهر أيضاً صولات وجولات في الفتاوى تحت الطلب خصوصاً حينما تتعارض المصالح السياسية مع الاعتبارات الدينية كما يفهمها ويفسرها رجال الدين قبل أن يتأثروا بتلك المصالح العليا للدولة التي تتقاطع حتماً مع مصالحهم الدنيا وتسوقهم سوق الإبل للإفتاء بما يتناغم ومصلحة الدولة وتوجهاتها.

ثمة من تأخذه الجلالة في وضع نفسه وفتاواه تحت الطلب إلى الحد الذي لا يصمت فيه وحسب عن المخالفة الدينية –كما أفتى هو بها- بل يتجاوز ذلك ليشيد بها ويثني على القائمين عليها، فقد بث بعض الناشطين مقاطع فيديو للشيخ العريفي وهو يأصل ويفصل في أن ليس الغناء حرام وحسب وإنما الجلوس في مجالس الغناء حرامٌ حرامٌ حرام... فإذا بالشيخ يجلس في حفل غنائي أقيم مؤخراً في السعودية ليستمع ثم ينهض بعد الوصلة الغنائية ليلقي كلمة يثني فيها على المطرب ويصف عجبه من محبة الجمهور له وأن هذا من محبة الله الذي –حسب قول الشيخ- إذا أحب عبداً نادى ملائكته وأمرهم بحبه! هذا الاستخفاف بعقول الناس ينم عن لا مبالاة ووصولية وتسلقية لبلابية مقيتة تظهر ما نقول به دائماً أن الدين أداة تتلاعب بها الدول بشعوبها من خلال مشايخها الذين هم تحت الطلب.

 الشيخ الذي كان يحرم الغناء ثم لا يجد بأساً من الجلوس للاستماع لمغني والثناء عليه، هو نفسه الذي قد يسبغ صفة المشروعية على اعتقال فلان والتضيق على علان بل وربما قتل ترتان إذا كان مزعجاً للدولة، وذلك بمجرد فتوى ظريفة خفيفة تقول: “إن فلاناً قد كفر”، فالفتاوى المعلبة الجاهزة قد ساهمت في تبرير عدم الاقتصاص من القتلة الذين تتلطخ أيديهم بدماء أصحاب الفكر الحر والرأي المستنير في معظم الدول العربية والإسلامية المستبدة.

السؤال المحوري هو هل الدول التي تعلن أنها تنحو منحى الدولة المدنية؛ جادةٌ في سعيها لبلوغ هذه الغاية؟ تؤكد الممارسات الدينية الأبوية التي تتم بمباركة ورعاية من هذه الدول أن تلكم المزاعم عن السير نحو دولة مدنية ليست إلا فقاعة تظهر وتختفي وتستخدم بدورها تحت الطلب.

الدولة المدنية لا تعرف التشريع ولا الدستور ولا القرارات... ذات المرجعية الدينية، وإنما تعرف سيادة القانون الذي يخضع له الجميع؛ حكاماً ومحكومين مفتين ومشايخ، أما الدولة “الحلمنتيشية” فهي دولة يختلط بها الحابل بالنابل ويغدو الدين دلالة مدنيتها! وتصبح أنظمتها الاستبدادية طريقها إلى الديمقراطية! ويصبح مثقفوها إعداءً لها وجاهلوها من خيرة جنودها! ويرفل فيها المشايخ بالنعم ويحظون بالعطايا في كل مرة تضغط فيها الدولة على زر لاستصدار فتوى، لتخرج الفتوى مفصلةً جاهزةً ويردد مشايخ تحت الطلب: “ربنا يجعله عامر”.

 

مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني

أضف تعليقك