ذكورية الحجاب
يُقال إنّ العقل الجمعي يسود عندما يكون (ما يهم) هو أنْ تكون على حق في أعين الغير، وهذا ما يجعل الفرد يتبع "الإحساس الآمن الشكلي ضمن المجموع"، وبما أنّ العقل الجمعي العربي مازال في ركوده ومحافظاً على جموده، يصعب علينا تجاوز ما يسمى بظاهرة سلوك القطيع.
تنال المرأة الحصة الأكبر من خطورة ما تنتجه هذه المجتمعات، إذ إنَّ القوانين المجتمعية (من عادات وتقاليد) تظهر مخاطبة المرأة في أدق تفاصيل حياتها، وكأنّها مُلك العامة جميعهم. تتطرق "سيمون دي بوفوار" للأثر الذي تحدثه الحياة الاجتماعية في نشأة الفتاة في كتابها "الجنس الآخر" ص118 (إنّ الحياة الاجتماعية العامة للفتاة هي التي لا تترك لها أي مجال لإبراز شخصيتها وإثبات وجودها، بل تؤكد على العكس مركب النقص الذي بدأت تشعر به منذ طفولتها، بل إنّ هذا المركب يجثم على حياتها من ناحية أخرى، فيعيق تطورها الروحي والفكري، وقد لوحظ أنّ الفتاة تبدأ اعتباراً من بلوغها في التأخر عن الرجال في الميادين الفكرية والفنية. هنالك عدة أسباب لذلك، وأهمها أنّ المراهقة لا تصادف من حولها التشجيع الذي يحظى به إخوتها، بل على العكس من ذلك يشجعها الأهل والأصدقاء على أنْ تظهر بمظهر "المرأة"). هكذا تُنشأ الفتيات؛ مظهر واحد، جوهر واحد على عكس تلك الاختلافات التي تميز أفراد المجتمع من الفتية، والذين يملكون الحق في إيجاد ذواتهم في مساحة مطلقة من الحرية التي تمنح لهم.
إنّ لباس المرأة أحد تلك الأمور التي فرضتها المجتمعات على اختلافها وباختلاف أسبابها وغاياتها؛ فقد ظهر الحجاب بدايةً في العصر الآشوري كعلامة مميزة للحالة الاجتماعية للمرأة، كما ذكر الدكتور خزعل الماجدي في محاضرة أقامتها "الجمعية الأوروبية للتنمية البشرية" بعنوان "نساء عظيمات من وادي الرافدين"، وأكّد أنّ الحجاب لم يحمل أية دلالات دينية، ولم يميز بين السيدة وخادمتها فقط، بل بين المتزوجة وغير المتزوجة، وجاء على شكل قانون ملزم "مادة 40 من القانون الآشوري"، وكان النص يفرض الحجاب على المرأة المتزوجة والحرة والأرملة ويمنعه عن الأمة، ولم يتوقف النص على هذا، بل حدد عقوبات لمن يخالفه من النساء، ومن يتستر من الرجال على أمة تجرّأت على أنْ تغطي رأسها. وهنا تقدم "غيردا ليرنر" شرحها الخاص بهذا القانون في كتابها "نشأة النظام الأبوي"، فتذكر في الصفحة 271 (أنّ الزوجة والمحظية أو الابنة العذراء المحجبة، كنّ قابلات للتحديد من قبل أيّ رجل بأنّهنّ تحت حماية رجل آخر، وبذلك تنفصل كطاهرة وغير قابلة للانتهاك، وبصورة معكوسة، المرأة غير المحجبة كانت معلّمة بوضوح كغير محمية، وبالتالي طريدة مناسبة لأي رجل. إنّ هذا النموذج من التمييز المرئي المطبّق حصل عبر الزمن التاريخي في العدد الضخم من القوانين المنظّمة التي تضع "النساء سيئات السمعة" في مناطق معيّنة، أو منازل معيّنة، وعليهنّ علامات قابلة للتمييز بسهولة).
إنّ دلالات الحجاب الدينية التي جاءت مع الأديان السماوية لاحقاً وبأمر إلهي (وفق تأويلات الفقهاء) ووفقاً لتبريراتهم التي وصلت بالبعض لاعتبار كامل جسد المرأة عورة وفتنة تثير شهوات الرجال، تؤكد صحة ما قدمته لنا "غيردا ليرنر" عن المادة 40 من القانون الآشوري، والتي لم تتغير في مضمونها عن الغايات الدينية؛ إذ إنّه ليومنا هذا تلام الفتاة التي تتعرض لتحرش أو حتى اغتصاب على أنّ ملبسها هو السبب، فتتم تبرئة المجرم، ويبقى جسد المرأة هو المذنب الوحيد.
صحوة إسلامية أم هوية مستحدثة:
لا بد من أنّ نكسة حزيران منحت التيارات الإسلامية فرصة للظهور أمام التيار القومي (العلماني) المتمثل في الرئيس جمال عبد الناصر (الرجل الذي تمت هزيمته)، واعتبرت هذه التيارات أنّ الهزيمة غضب إلهي أثاره عري المرأة على حد زعمهم، وعليه بدأت الدعوات لتحجب النساء.
لعبت التيارات الإسلامية دوراً كبيراً في إعادة نشر ظاهرة الحجاب تحت مسمى (الصحوة الإسلامية)، إذ إنّ جهلاً كبيراً كان مخيّماً لسنوات على الشعب العربي، والمتمثل بسفور المرأة المسلمة بحسب ادعائهم.
ومع قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، تمت محاصرة المرأة الإيرانية وفرض الحجاب عليها بالقوة، ليصبح الحجاب رمزاً وهوية للدين الإسلامي وأداة ً بارزة لنشر أيديولوجية معينة، وهذا ما يؤكده أستاذ علم اجتماع الأديان "فرانسوا غوتيه" في حوار نشر على موقع swissinfo.ch (أنّ الحجاب أصبح وسيلة لتأكيد الهوية في عصر العولمة). وعليه، تطلّب هذا ظهور "بروباغندا إعلامية" واسعة ساعدت في نشر هذه الهوية.
حرية أم إكراه:
أصبح الحجاب أمراً بديهياً للفتاة المسلمة، فهو في الغالب أمرٌ مسلّمٌ به في مجتمعاتنا، وكما ذكرتُ في البداية، البحث عن الإحساس الآمن والسير وراء المجموعة هو سمات هذه المجتمعات، وخصوصاً حين يُفرض الحجاب بعمرٍ لم يكتمل فيه وعيها بعد، ولتتشابه مع محيطها، وتتخلص من نظرة الشذوذ عنه، وهكذا تسهل السيطرة عليها، لنجد بعدها فكرة (خلعه) من الكبائر التي لا تجرؤ عليها. يدافع المسلمون عن الحجاب على أنّه حرية شخصية لا تحترمها بلدان الحريات، ولكن عندما تفكر الفتاة المحجبة في التخلي عنه، يصبح الأمر خارج حريتها، بل هو أمرٌ إلهي لا يمكن عصيانه، فتواجه الفتاة مضايقات معنوية، وربما جسدية إنْ فكّرت في القيام هذا.
هذا الإكراه لن يسمى حرية أبداً، إلا إذا توافق مع ما ذكره الأستاذ والباحث علي اليوسفي في مقاله "تحجيب النساء حماية للذكور من شهواتهم" (عندما نعلّم الفتيات والفتيان منذ نعومة أظافرهم الحقائق التاريخية، سنعلم الطفل أنْ يتخلص من البداوة الحيوانية، وسنعلّم الفتيات عدم الشعور بالدونية والانتقاص في وجه كل من سولت له نفسه المس بكرامتهن، وآنذاك فقط سنعتبر ذلك اختياراً، وسندافع عنه باسم الحرية والمساواة وحقوق الإنسان).
صحوة مضادة أم إقصاء للمرأة المحجبة:
ربما تتشابه طرق "الآخر" المتمثل في الجماعات المتحررة، التي كسرت حاجز التقاليد الدينية، في تعاملها مع جسد المرأة، إذ يبدو موقفها المضاد من الحجاب مشابهاً ربما لموقف الجماعات المتدينة من المرأة غير المحجبة، ويرى البعض أنّه في كلا الأمرين ما هو إلا تدخل ضمن ذكورية المجتمع.
أثارت تصريحات المفكر الكبير فراس السواح ضجة خلال الفترات الأخيرة، والتي كانت إحداها (الحجاب ظاهرة غير حضارية، ويجب أنْ تختفي)؛ ظهر السواح بعدها في حوارٍ أجراه مع الإعلامي "إبراهيم عيسى"، فتطرق بدوره لهذه المسألة سائلاً إياه: ما إذا كانت تصريحاته تحمل طابعاً تمييزياً ضد المرأة المحجبة، فأجابه السواح: لا، كنت أرغب بأنْ أحدث شقّاً، صدمةً، أنْ ألقي حجراً بهذا المستنقع الساكن لا أكثر. شارحاً المقصد من "الساكن" بانعدام وجود أيّ حوار حول هذه المسألة.
لا تتساوى لديّ تلك الدعوات الداعية للحجاب تحت مظلة الدين مع الأصوات التي تنادي بتحرير المرأة من السلطة الدينة وحتى السياسية، والتي لا تكف عن استخدام المرأة لغاياتها، ولكن من المؤكد أنّني أرفض أنْ تستخدم المرأة وقضاياها بشكلٍ استغلالي يعود عليها بضرر الإقصاء والاضطهاد، ولأية جهةٍ كانت. من المؤكد أنّنا بحاجة لذلك "الحجر"، في كل قضايا المرأة، والتي مازالت في حالة سكون في مجتمعاتنا العربية، وعلينا بدايةً، أنْ نحدث حركة في العقل العربي، لعلّنا ننجو من الركود.
*مؤمنون بلا حدود