ديوان آل باتشينو

ديوان آل باتشينو

في تعليق واضح على موجة دواوين العائلات واليافطات التي تبدأ بـ"ديوان آل.."، التي انتشرت في أنحاء عمّان والمدن الأردنية، ارتدى مراهق ساخر "تي شيرت" مزين بعبارة "ديوان آل باتشينو".

السخرية، التي ربما تُغضب الكثيرين ممن يعتقدون أن هذه "الدواوين" تمثل شيئاً له علاقة بالترابط الاجتماعي أو بالهوية في تفرعاتها الضيقة، ستفوتهم السخرية، التي تأتت لمراهق لا يجد نفسه، لا في عائلته الصغيرة، ولا الكبيرة، ولا في العشيرة، ولا حتى في الوطن..

إنه لا يجد في كل هذه التكوينات ما يمنحه مقعداً دراسياً، ولا فرصة عمل متواضعة يمكنها أن تجعل من وجوده على قيد الحياة أمراً لا يتسبب بالازعاج لمعيليه، وبالحرج لنفسه.

شخصياً، فإن عبارة "ديوان آل باتشينو" (الكرام)، التي أضحكتني وتضحكني كلما تذكرتها، لم تبد واضحة فوراً. احتجت إلى عامين تقريباً لأفهم علاقتها الوطيدة بالواقع الذي نعيشه، وبالجذور التي أنبتتها..

فهي، بالتأكيد ردٌ على واقع مشوه، وليست نتاج "إبداع" ذلك المراهق!

واليوم أفكر، أن باتشينو، نجم السينما الأميركية، الذي ترشحه أصوله الايطالية إلى جانب قدراته الفنية لأداء أدوار كبيرة في الأفلام التي تتناول عائلات المافيا الايطالية في الولايات المتحدة بدءاً من ثلاثينات القرن الماضي؛ وفي واحد من من هذه الأدوار جسّد فشل جيل جديد من أبناء عائلات المافيا في الخروج على "التقاليد العائلية"..

الحديث يجري هنا عن فيلم "العراب" الشهير. الفيلم الذي يمثل إلى اليوم لغزاً في عالم النقد السينمائي لتمكنه، على نحو غير مسبوق، من تقديم "بطل" سلبي، محبوب، يستقطب الإعجاب العميم بـ"أخلاقياته العالية"، من خلال الدور الذي أد~اه أسطورة التمثيل مارلون براندو، في دور "دون كارليوني".

اللغز هنا، لا تلقطه السينما، وهو بالتالي بعيد عن متناول النقد السينمائي. ولكن يرصده الأدب. ولهذا، فإن السر الموجود في الفيلم على نحو غامض، موجود في الأدب. أعني في رواية "العراب" لماريو بوزو التي اقتبس عنها أحد أهم مبدعي السينما الأميركية في النصف الثاني من القرن العشرين، فرانسيس فورد كوبولا، فيلمه..

لابدّ أن يلفت الانتباه أن أغلب صناع الفيلم هم من أصول ايطالية، بدءاً من المؤلف والمخرج مروراً بأبرز الممثلين، بينهم براندو ذو الأصول الإيرلندية، المتتلمذ على أيدي أنصار منهج ستانيسلافسكي، الذي يعتبر هو أحد أقوى وأشهر أنصاره..

اللغز يقوم، في الرواية كما في الفيلم، على البدء من واقع معدم؛ وحينها فإن القانون بمستوياته الأربعة يتعطل، ويصبح أدنى أولوية من مسؤوليات الحفاظ على الكرامة الإنسانية، بما في ذلك القانون الأخلاقي الشخصي، والعرف والتقليد الاجتماعيين، وقانون الدولة، والتعاليم الدينية.

لذا، لا يملك إنسان إلا أن يتعاطف مع دون كوروليوني، الذي يكافح ضد المصير المدقع الذي فرضه على عائلته ومحيطه القدر الاجتماعي، ويكسر الأخلاقيات الشخصية، ويتحايل على قانون السلطات، ويتجاوز الثواب والعقاب، ويقوم بمسؤولياته تجاه عائلته والآخرين الذين لا يجدون ما يسعفهم في كل ذلك.

أي، مزيج لافت من الولاء والمصلحة. الولاء القائم على رابطة الدم، ولكنه محدد بالمسؤولية والواجب المتبادل، والمصلحة المحددة بالتضامن على أساس المظلمة العامة.

ويمكننا هنا أن نتوقف لننتبه إلى أن كل ديوانياتنا، التي تستند على رابطة الدم، لا تشير إلى مسؤولية وواجب متبادلين، أو مصلحة محددة بالتضامن المشترك على أساس المظلمة العامة، وبمبدأ لكل حسب حاجته، ومن كل حسب قدرته. ما يجعلنا غير مخولين بلوم مراهق يريد أن ينتسب لـ"ديوان آل باتشينو".

إنها "كومونة" خارجة عن القانون وحسب. ولكن من يأبه للقانون إن كان ممكناً تجاوزه، والتحايل عليه، وشراؤه!؟

ولكننا، وهنا موضع الخطورة، مجتمعات تعيش في عصر ما قبل الدولة، بعد تشويه ذلك الـ"قبل". وما نزال محتجزين في تكوينات لا ترقى إلى مستوى "المافيا". وكل هؤلاء الذين يريدون أن ينتسبوا إلى "ديوان آل باتشينو" لا يريدون الانتساب إلى تلك التكوينات، بل إلى ما هو متاح في عالمهم ويذكرهم بـ"ديوان آل باتشينو". وهم بحكم الثقافة الإسلامية الرسمية، التي تربّت في حضن الأنظمة العربية، تحديداً، يجدون أنفسهم في "ديوان آل داعش".

وهناك في الختام تذكير بأمرين: الأول، أن آل باتشينو جسّد فشل جيل جديد من أبناء عائلات المافيا في الخروج على "التقاليد العائلية". كان ذلك فشلاً في التحول من النوازع الاجتماعية الغريزية إلى الواعية. أي من "الجريمة" إلى "الثورة". والثاني، أن أصل مفردة "مافيا" في روايات شائعة يعود في أصله إلى كلمة صقلية مقتبسة من مفردة شعبية عربية كانت شائعة في القرون الوسطى، وهي «مهياص»، وتعني عنفي وعدواني، بينما تعيدها بعض المعاجم إلى مفردة «مرفوض» العربية.

أخشى أن نلتقي جميعاً في "ديوان آل باتشينو"..!

 

ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.

أضف تعليقك