دستورية الحكومة قبل حصولها على ثقة مجلس النواب
في غمرة استعدادات رئيس الوزراء، الدكتور عبد الله النسور، لتقديم البيان الوزاري لحكومته الجديدة لمجلس النواب السابع عشر يثور التساؤل الأبرز حول دستورية الحكومة في الفترة ما بين تشكيلها وحصولها على ثقة مجلس النواب على البيان الوزاري. وقد انقسمت الآراء حول الاجابة على هذا التساؤل، فهناك من يرى أن الحكومة في الأردن تعد دستورية بالمعنى الكامل منذ تاريخ صدور الإرادة الملكية السامية بتشكيلها وأدائها اليمين الدستورية أمام جلالة الملك، وأن حصولها على الثقة على بيانها الوزاري هو لغايات تأكيد شرعيتها الدستورية بحيث إذا ما فشلت الحكومة في الحصول على ثقة مجلس النواب فإنها تكون ملزمة دستوريا أن تستقيل.
كما يستند أصحاب هذا الرأي إلى ما ذهبت إليه الممارسات الدستورية في السابق من أن حصول الحكومات الأردنية المتعاقبة على ثقة مجلس النواب على بيانها الوزاري هو تحصيل حاصل باستثناء ما جرى عام 1963 عندما قرر مجلس النواب عدم الثقة بالبيان الوزاري المقدم من حكومة سمير الرفاعي الجد، الذي قام من جراء ذلك تقديم استقالة حكومته الخطية. لذا يذهب أنصار هذا الرأي إلى اعتبار كافة الأعمال والمهام التي تقوم بها الحكومة بعد تشكيلها وقبل حصولها على ثقة مجلس النواب على بيانها الوزاري دستورية بالمعنى الكامل.
في المقابل، فهناك رأي آخر يتجه إلى القول إن الحكومة تستمد دستوريتها الكاملة بعد حصولها على ثقة مجلس النواب على بيانها الوزاري، وأن ما جرت عليه الممارسات الدستورية في الأردن من حصول الحكومات على ثقة مجلس النواب على بيانها الوزاري لا يمكن الاعتداد به بعد أن خضعت أحكام البيان الوزاري في الدستور الأردني لتعديلات جوهرية عام 2011، تبرر إعادة النظر في أهمية البيان الوزاري ودستورية القرارات التي تتخذها الحكومة قبل حصولها على ثقة مجلس النواب. فبعد أن كان تقديم البيان الوزاري اختياريا، أصبح تقديمه إلزاميا حتى للحكومات التي تؤلف في ظل حل مجلس النواب أو عدم انعقاده. فقبل عام 2011، لم يكن المشرع الدستوري يعطي البيان الوزاري قيمة دستورية كاملة، إذ كان يسمح للحكومة التي تؤلف في ظل غياب مجلس النواب أن تعتبر خطاب العرش بيانا وزاريا لها لغايات الحصول على ثقة مجلس النواب من دون أن تكون ملزمة دستوريا بأن تقدم بيانا وزاريا خاصا بها.
إن خطورة اعتبار خطاب العرش بيانا وزاريا للحكومة الجديدة كانت تتمثل في الزج باسم الملك في مداولات مجلس النواب بشكل يتناقض مع مفهوم النظام البرلماني القائم على أساس عدم مسؤولية الملك السياسية أمام مجلس النواب على اعتبار أن الوزارة هي من تتحمل المسؤولية السياسية عنه تطبيقا للقاعدة الفقهية أنه لا ينسب إلى الملك خطأ بل ينسب إلى وزرائه.
أما بعد التعديلات الدستورية الأخيرة عام 2011، فقد أعاد المشرع الدستوري الاعتبار إلى البيان الوزاري بأن ألزم كل حكومة جديدة تؤلف أن تتقدم إلى مجلس النواب ببيان وزاري، وأن تحصل على ثقة مجلس النواب عليه حتى ولو تشكلت في الفترة التي كان فيها مجلس النواب منحلا أو غير منعقد.
كما أجرى المشرّع الدستوري تغييرا جوهريا آخر فيما يتعلق بآلية التصويت على البيان الوزاري. فقبل عام 2011، كان التصويت على البيان الوزاري سلبيا بحيث كان يشترط الدستور الأردني لاعتبار البيان الوزاري مرفوضا أن يصوت الأكثرية المطلقة من السادة النواب على عدم الثقة به. أما بعد عام 2011 فقد أصبح التصويت على البيان الوزاري ايجابيا بحيث أصبح يشترط أن يصوت السادة النواب لصالح الثقة بالبيان الوزاري بالأكثرية المطلقة من أعضاء المجلس وذلك عملا بأحكام الفقرة (6) من المادة (54) من الدستور التي تنص على أن الوزارة تعد حاصلة على الثقة إذا صوتت لصالحها الأغلبية المطلقة من أعضاء مجلس النواب.
إن هذا التغيير الجذري في تعاطي الدستور الأردني مع البيان الوزاري وذلك من خلال اشتراط تقديمه من قبل كل حكومة جديدة تؤلف والتشدد في آلية تصويت أعضاء مجلس النواب عليه يجب أن يفسر على أنه إعادة اعتبار للبيان الوزاري من قبل المشرع الدستوري، وأن يرافق ذلك تغيير في مكانته الدستورية والأثر الدستوري المترتب على عدم تقديمه. فالقاعدة التي استند عليها الدستور الأردني في إلزام كل حكومة جديدة تؤلف أن تتقدم لمجلس النواب ببيان وزاري لنيل الثقة عليه هي أن الأمة مصدر السلطات. فهذا المبدأ يجب أن يطبق على جميع السلطات في الدولة من دون استثناء بحيث تلتزم جميعها بالحصول على ثقة أعضاء مجلس النواب قبل مباشرتها لأعمالها ومهامها الدستورية. فالمادة الأولى من الدستور تنص على أن نظام الحكم في الأردن هو "نيابي ملكي وراثي"، حيث قدم المشرع الدستوري النظام النيابي على النظام الملكي الوراثي تكريسا لمبدأ الأمة مصدر السلطات. كما أن الحكم على شرعية السلطة مع عدمه يكون من خلال الأمة وممثليها المنتخبين في البرلمان، فالملك في الأردن يؤدي اليمين الدستورية أمام ممثلي الأمة قبل مباشرته مهامه الدستورية، وكل من أعضاء مجلسي الأعيان والنواب يؤدون اليمين الدستورية تحت القبة قبل ممارسة عملهم الرقابي والتشريعي باعتباره المكان الذي اختارت فيه الأمة ممارسة سلطاتها من خلال نوابها المنتخبين، فإذا لم يقم الملك أو أي عضو من أعضاء مجلسي الأعيان أو النواب بأداء اليمين الدستورية لما تمكن أي منهم من ممارسة سلطاته التي أناطها به الدستور.
هذا الإطار يجب أن لا تخرج الحكومة عنه، إذ لا بد وأن تتقدم ببيان وزاري إلى مجلس النواب لنيل ثقة ممثلي الشعب عليه قبل أن تمارس سلطاتها الدستورية الكاملة، وأن تعامل معاملة الملك وأعضاء السلطة التشريعية من خلال تعليق مباشرتها لمهامها الدستورية الكاملة على حصولها على ثقة الأمة على بيانها الوزاري من خلال ممثليها المنتخبين في مجلس النواب.
لذا، فإن الرأي الأرجح أن الحكومة التي لم تحصل بعد على ثقة مجلس النواب على بيانها الوزاري يفترض بها أن تكون حكومة تسيير أعمال، وأن لا تتخذ أي قرارات مفصلية مهمة حتى تقدم بيانها الوزاري للحصول على ثقة مجلس النواب عليه. فتعيين رئيس الوزراء والوزراء من قبل جلالة الملك يجب لا يخرج عن كونه مجرد ترشيح لهم لشغل وظيفة أعضاء في السلطة التنفيذية، وأن هذا الترشيح يجب أن يكون معلقا على موافقة مجلس النواب عليه من خلال التصويت على البيان الوزاري للحكومة الجديدة وذلك لضمان مباركة الشعب من خلال ممثليه لبرامج الحكومة وأهدافها التي ستسعى إلى تحقيقها خلال فترة وجودها في سدة الحكم.
هذا المفهوم الدستوري للبيان الوزاري قد أسيء فهمه وتطبيقه من قبل المشرع الدستوري الذي أورد نصوصا خاصة اعتبرت من خلالها أن الحكومة في الأردن تعد دستورية بالكامل من تاريخ تعيينها من قبل جلالة الملك، ولا أدل على ذلك أنه قد اشترط استقالة الحكومة التي تنسب بحل البرلمان والتي حتما ستخلفها حكومة جديدة لن تجد مجلس نواب قائم وموجود لتتقدم إليه ببيانها الوزاري، وهذا ما حدث مع الرئيس النسور الذي خلف الدكتور فايز الطراونة الذي نسبت حكومته بحل مجلس النواب السادس عشر، فشكل النسور حكومته الأولى التي رحلت من دون أن تقدم بيانا وزاريا لمجلس النواب السابع عشر.
إن اختيار رئيس الوزراء في الأردن وإن كان يعبر عن إرادة شخصية لجلالة الملك، إلا أن الدستور الأردني قد اعتبر أن إرادة البرلمان تسمو على إرادة الملك فيما يتعلق باستمرارية ذلك التعيين أو إنهائه. ففي أية لحظة يقرر فيها مجلس النواب حجب الثقة عن رئيس الوزراء أو عن الحكومة بكاملها، فإنها تعتبر مقالة بحكم الدستور. فما دام مصير الحكومة في رئاسة الوزراء معلق دستوريا على ضمان استمرارية حصولها على ثقة مجلس النواب، فإن بداية تشكيلها يجب أن يقترن بمباركة مجلس النواب وموافقته على برنامجها الوزاري.
وما زاد الأمر سوءا أن الدستور الأردني قد أعطى الحكومة الجديدة فترة ثلاثين يوما بعد تشكيلها لتقديم بيانها الوزاري، وهي مدة طويلة يجب اختصارها لأيام معدودة تلزم خلالها الحكومة بإعداد بيانها الوزاري والتقدم به إلى مجلس النواب للحصول على ثقة أعضائه وذلك لتجنب الخوض في مسألة دستورية القرارات والأعمال التي تقوم بها الحكومة قبل حصولها على ثقة مجلس النواب على بيانها الوزاري. فالبيان الوزاري للحكومة الجديدة عادة ما يستند إلى كتاب التكليف السامي لرئيس الوزراء بتشكيل حكومة جديدة، وهو ما يسهل على الحكومة الجديدة إعداد بيانها الوزاري والتقدم به إلى مجلس النواب خلال أيام من تاريخ تأليفها وذلك تفاديا للجدل حول دستوريتها في الفترة ما بين تشكليها وحصولها على ثقة مجلس النواب.
خلاصة القول إن هناك حاجة ماسة لتعديل الدستور فيما يتعلق بالعلاقة بين تشكيل الحكومات والثقة على البيان الوزاري، إذ يجب أن تتضمن نصوص الدستور ما يفيد أن تشكيل الحكومة في الأردن معلق على حصولها على ثقة مجلس النواب على بيانها الوزاري، وأن الحكومة تكتسب شرعيتها الدستورية الكاملة بعد حصولها على الثقة على بيانها الوزاري.
* أستاذ القانون الدستوري المساعد في كلية الحقوق في الجامعة الأردنية
العرب اليوم