داعش وأخواتها: الدولة الفاشلة في مواجهة التمرد

داعش وأخواتها: الدولة الفاشلة في مواجهة التمرد
الرابط المختصر

تبدو ظاهرة داعش وأمثالها في الدول العربية تسير نحو تطورات دراماتيكية، وما زالت تحتاج إلى تحليل ودراسة، فربما تشير إلى مرحلة جديدة من العلاقة بين الدولة وشعبها، وقد تكون ظاهرة عربية تتحول إلى عالمية في المستقبل أيضاً، إذ تصبح الدولة غير قادرة على حماية مواطنيها، وتفقد السيطرة والثقة والقوة التي تجعل مواطنيها يقبلون حكمها، من خلال الدستور والقوانين التي تنظم علاقة الناس بالدولة وعلاقة الناس فيما بينهم.

من المعروف أن الدولة الحديثة نشأت على أسس مختلفة بعد صراعات دموية بين فئات المجتمع، حيث كانت المجتمعات تنظم نفسها من خلال توازنات وصراعات وسيطرة القوي على الضعيف، ولم تكن فكرة الدولة موجودة في وجدان الناس، وبعد المفاهيم الجديدة للتنظيم الإنساني ظهر ما يسمى الدولة الوطنية المركزية، التي ترعى مصالح الناس وتقوم على خدمتهم، وفي المقابل تفرض شروطها وقوانينها على الجميع، وكانت في البداية دولة رعاية خالصة ثم تحولت إلى دولة تهتم بشؤون الإدارة والتنظيم، وتترك الحرية للناس بتقرير ما يريدون من خلال المشاركة في اتخاذ القرار، وهو ما يسمى، اليوم، الديموقراطية.

الدولة في رأي توماس هوبس تنشأ نتيجة تعاقد إرادي وميثاق حر بين البشر لينتقلوا من حالة الطبيعة؛ حالة الحرب والصراع إلى حالة المجتمع والمدينة، وغاية الدولة هي تحقيق السلم والأمن، ويرى سبينوزا أن تأسيس الدولة ليس لفرض السيادة والسلطة على الناس أو إرهابهم، بل صيانة حقوقهم وحرياتهم في العمل والتفكير والسلوك بعيداً عن الحقد والظلم والخداع، والغاية الحقيقية من تأسيس الدولة هي تحقيق الحرية. ويرى هيجل أن الدولة لا تستمد مشروعيتها من مجرد حماية الملكية وتحقيق الأمن والملكية الفردية، كما تؤكد ذلك نظريات  التعاقد الاجتماعي.

نظريات عديدة تفسّر مفهوم الدولة من منظور حداثي، وأهمها نظرية العقد الاجتماعي، حيث يرى هوبز أن الناس في الحالة الطبيعية كانوا يعيشون حالة من الصراع والحرب والفوضى، ولرغبتهم في السلم والأمن والنظام، تنازل كل واحد منهم عن حق السيطرة على كل شيء، لشخص واحد. وكان هذا التنازل بمثابة عقد اجتماعي أدى إلى نشوء الدولة القائمة على القوة، أما جون لوك، فيعتبر أن التعاقد الاجتماعي جرى بين الأفراد من جهة وبين الملك من جهة أخرى، بأن يتنازلوا للملك عن بعض حقوقهم بقدر يسمح بقيام سلطة عامة، وعلى الملك حماية حقوق الأفراد مقابل طاعتهم إياه، وفي حالة عجزه عن حماية هذه الحقوق يفسخ العقد من قبل الشعب.

الدولة الحديثة تقوم على أساس الاتفاق الضمني بين السلطة والناس، ومن أهم أسسها المشاركة في إدارة شؤون الحكم، وحرية الاختيار، وتوفير الأمن، مقابل الطاعة التي يتقيد بها المواطنون، طبعاً مع تحقيق العدل والحرص على تطبيق القانون على الجميع، وعدم الاستقواء والظلم.

لو نظرنا إلى الدول العربية لوجدنا أن هذه الأسس غير موجودة، وأن نظام الدولة مشوه، ويمثّل الحاكم فيه سلطة مطلقة، وليس له شرعية سياسية أصلاً، إذ لم يختره أحد، وفرض نفسه بالقوة، وهو من يقرر وحده، ويعلن الحرب والسلم، ومن يعطي ويمنع، ومفاتيح الرزق بيديه. أما الشعب فعليه الطاعة دون سؤال، وعليه أن يتحمل الخطأ من غير أن يشارك في صناعة قراره. إنه خلل في بنية الدولة التي تفقتد المعايير الحقيقية لنشوئها، كما ذكرنا، لذا نجد أن غالبية الشعوب العربية تعمل ضد دولها، وهي غير راضية عن وجودها أساساً، لذا يبدو ظهور هذه الجماعات منسجماً مع الواقع الذي يعيشه الإنسان العربي، وهذه الجماعات هي التعبير الأقصى عن الخلل الحاصل في بنية الدولة، وكذلك التعبير الحقيقي عن فشل الدولة في إدارة المجتمع من خلال المؤسسات بعيداً عن الفردية والتسلط.

حاولت السلطات العربية مجاراة فكرة الدولة التي قامت في الغرب بعد نزاعات وصراعات واستحقاقات موضوعية، فقلدتها شكلاً وناقضتها مضموناً، فتحولت إلى تجربة مشوهة، فهناك ديموقراطية ومؤسسات وانتخابات، لكنها في واقع الحال لا تعدو كونها لعبة تمارسها فئة حاكمة ضد أغلبية صامتة، فتحولت الممارسات الديموقراطية نفسها إلى أدوات للتسلط والقمع، وصارت الدولة مسخّرة لخدمة فئة متنفذة وليس لصالح المجموع, وصار الحاكم دكتاتوراً لا يمكن نقده ولا عزله، وبنى حوله حواجز من الأمن والرعب من خلال توزيع الثروات على مجموعات ترتبط به عضويا وبمصالح خاصة، فصار الفساد أحد أهم المكونات العضوية للنظام، وبذلك كله وغيره فقدت فكرة الدولة مضمونها الحقيقي، ولم تعد مقنعة لمواطنيها، حيث يشعر الفرد بأن الدولة لا تمثله ولا تعبر عن رأيه وقراراته.

ظهور داعش هو تعبير عن فشل الدولة الحديثة في بناء فكرة المؤسسات والمواطنة، وبقاء فكرة العصبية والغلبة التي مارستها الأنظمة العربية على مر التاريخ، مدعمة بتراث سلفي يبرر كل عملٍ من أجل الوصول إلى الحكم الأمثل، وهو (الخلافة الراشدة)، الذي يرى أنه يحقق رضا الرب، ويؤدي لدخول الجنة، ولذا فإن الاستقواء على الدولة هو المبدأ الأساس في الاستيلاء عليها في أي وقت تتمكن أي مجموعة من ذلك، فالغلبة لمن يملك القوة في أي وقت، ولا قبول بمبدأ الاختيار الحر من خلال صندوق الاقتراع، ومن هنا يمكن تفسير ظهور الجماعات المسلحة واستيلائها على الدولة في العراق وسوريا وليبيا واليمن مثلاً، وأي مجموعة في المستقبل تتمكن من امتلاك القوة سيكون بمقدورها هزيمة أي دولة وأي جيش، وبخاصة إذا عرفنا أن الجيوش العربية تحول أغلبها إلى شركات خاصة لحماية مصالح الحاكم وتجارته، ولم تعد مقتنعة بأنها تمثل الوطن وواجبها الدفاع عن المواطن، ما يسمح للتدخلات الخارجية بأن تأخذ مداها في اللعب ضمن أسس بنيوية تجعلها قادرة على توجيه الصراع لمصالح إقليمية ودولية لا تخفى.

هل ستبقى هذه الظاهرة مقتصرة على الدول العربية وبعض الدول الإسلامية، أم أنها ستصبح ظاهرة عالمية، مع تحول مفهوم الدولة من الرعاية إلى الرقابة؟

·       يوسف ربابعة: كاتب وباحث ورئيس قسمي اللغة العربية والصحافة في جامعة فيلادلفيا. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.

أضف تعليقك