داعش "المسيحية": دعاة "المشرقية" أنموذجاً
خاص لــ عمّان نت
هناك إرهابيين يمارسون القتْل والإرهاب، هذه اللحظة، مثل داعش وبعض الميليشات الشيعية، في العراق، وثمة متطرفين يزرعون التطرف في كل طائفة ومذهب، ومنهم دعاة "المشرقية" في الأردن وسوريا ولبنان.
الفكرة الأساسية لدى داعش بأن "أهل السنّة مشرذمون وأذلاء، ولأنهم خير الناس وأعزّهم استحقوا أن يرفعوا السلاح ليقيموا دولة الخلافة"، وكذلك يروّج منظرّو المشرقية، هذه الأيام، لـ"مقاومة مسيحية مسلحة" في وجه التطرف الداعشي، كون قبيلتهم "المسيحية" مشرذمة وذليلة رغم أنها خير الناس لـ"سبب أو آخر"، فلهم أن يرفعوا السلاح ويتحولوا إلى ميليشيا.
"ميليشيا" داعش تفتري على التاريخ باختلاق وقائع أو انتقاء روايات تسوّغ أفكارها، وكذلك يفتري أصحاب "المشرقية"، ويُعلي داعش من "مظلومية" السنّة ليبرر جرائمه، مثلما يُبرز "المشرقيون" "مظلومية" المسيحيين لتبرير تسلحهم حال وقوعه، في سبيل إدامة التفتيت والتناحر بين فئات المجتمع الواحد.
على صفحات "الأخبار" اللبنانية يردد أحد كتّابها الأردنيين أن "القومية منتج مسيحي مشرقي، وحاجة مسيحية مشرقية"، وهو يغالط التاريخ من أجل تحريض العرب المسيحيين في مستويين إثنين؛ الأول بأنهم مؤسسي فكرة "القومية" في محيط يرفضها أو ليست حاجته على الأقل، والثاني لينفضوا يدهم من "القومية" باعتبارها مشروعاً جامعاً في دولة/ أمة، وينغمسوا في "المشرقية" بوصفها فكرة تجمع "الأقليات"، كما يحلو له تسميتها.
ساطع الحصري علماني حقيقي تجاوز انتماءه الإسلامي، ودعا إلى القومية مشروعاً سياسياً واجتماعياً، سابقاً دعوات كثيرين، مسيحيين ومسلمين، آمنوا بالفكرة لحاجتهم إلى دولة مدنية حديثة لا من أجل حماية الأقلية من الأكثرية، كما يريد أن يفهمها البعض.
ومساواة الوحدة القومية بـ"الفكرة المشرقية" هو افتئات على الواقع، فالوحدة تبنيها المصالح لا الأهواء والحديث عن مشرقيين متحضرين في وجه الأعراب، أو مشرقيين متعددي الطوائف في وجه الوهابية الإلغائية الإقصائية.
التحريف في قراءة الواقع لدى دعاة المشرقية لا يقتصر على اختزال الحرب الأهلية اللبنانية بمعاداة أطراف من المقاومة الفلسطينية للمسيحيين، بل يُسوًّق المسيحيين ضحايا في زمن الحرب، وضحايا "بعد انتصار المشروع السني الكبمرادوري المعروف بالحريرية".
معجم مُنظّر المشرقية مليء بالمصطلحات والمفاهيم الطائفية المشبعة بالكراهية ودلالات عنصرية، فيسمي الحريرية "مشروعاً سنياً كمبرادورياً"، ويصبح السوريون المسيحيون "مسيحيين سوريين"، واللبنانيون المسيحيون "مسيحيين لبنانيين"..، وسوريا يصفها بـ"العلمانية"، لأنها "ظلّت عاصمة المسيحية المشرقية، وعاش المسيحيون فيها في أفضل وضع مشرقي"، ويبدو هذا الشرح –حتى للأعمى- تعبيراً طائفياً وعصبوياً بامتياز.
وعلى المنوال نفسه يُفسر تهجير العراقيين المسيحيين منذ العهد الملكي، إذ يرى أن "إقصاء الشيعة (رغم أنهم الأكثرية) عن الدولة والسلطة، في العراق، يستلزم ذلك، تلقائياً، تهميش الأقليات واستبعادها"، وهو تفسير لا ينطق إلاّ عن عقل طائفي يصنف البشر وفق دياناتهم ومذاهبهم خارج انتماءاتهم الفكرية أو الطبقية أو المصلحية.
وتتواصل لغة التصنيف، التي لا نراها إلا لدى الوهابيين وبعض المستشرقين، حين يشير المنظّر المشرقي، الذي يدّعي اليسارية، إلى "الكتلة المسيحية الأردنية" بأنها "الكتلة الأكثر دينامية في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية.."، ليخلص أن "للولايات المتحدة وإسرائيل والقوى المرتبطة بها في مشروع الوطن البديل، مصلحة أساسية في تهجير مسيحيي الأردن، ذلك أنهم رأس الحربة في الحفاظ على الهوية الوطنية والنضال ضد وطن بديل سيحوّلهم من مكوّن رئيسي إلى أقلية هامشية".
هذا التوصيف لا غيره يجعل أمل الأردنيين المسيحيين، كما المسلمين، خارج هذه "المشرقية"، التي تغذي الهويات الفرعية، وتُزيّف راهنها وتاريخها، وتبعث الفتنة عبر المناداة بتسليحهاـ
العرب المسيحيون، كما يُثبت التاريخ، قاوموا أبشع مجزرتين وقعت بحقهم؛ الأولى على يد الامبراطورية الرومانية، والثانية على يد الصليبيين، وهذا لا يعني بأي شكل من الأشكال عدم مراجعة التاريخ الإسلامي بمراحله، كافةً، لتجاوز الأخطاء التي حصلت بحق العرب المسيحيين وغيرهم، من دون الانجرار للدفاع عن سياسات قامت على القمع والتنكيل.
المراجعة المنتجة لا تتأتى من الاستناد إلى مقولات شعبوية أو مغالطات تاريخية، ومنها رفض الكاتب المشرقي المذكور لـ"تاريخ الوضع المهين لأهل الذمة، بما في ذلك، تلك الوثيقة المعروفة بـ" العهدة العمرية"، فهي ليست أكثر من اتفاقية إذعان قبلها المغلوبون مضطرين، تلافياً للذبح والتهجير".
عند التدقيق بوثائق التاريخ، لا نجد إشارة لما تسمى "العهدة العمرية" إلاّ بعد مرور 400 عام على افتراض وجودها، إذ ورد ذكرها للمرة الأولى في كتاب ابن قيم الجوزية، تلميذ ابن تيمية، وهما مرجعيتان موثوقتان لدى الوهابية، حيث ورد نصها مع شروط تبدو غير واقعية لأنها لو طُبقت لن يبقى أثر لعربي مسيحي في بلادنا.
هناك رأيين، لديهما حجج قوية، الأول يقول بـ"العهدة" من دون تلك الشروط، والثاني ينفي وجودها بالمطلق حيث لم يُعثر على نسخة واحدة منها، كما أن لا معنى لعهدة تنظم واقع المسيحيين، وعدم وجود عهدة مماثلة تنظم واقع اليهود أو الصابئة أو غيرهم في الخلافة الإسلامية.
لا قراءة للتاريخ بإسقاطات الحاضر، رغم أهمية وضرورة مراجعته، ولا قراءة للتاريخ من أجل تأجيج الفتنة، فلا حديث عن المواطنة في جميع الامبراطوريات والدول التي عاصرت الخلافة الإسلامية، بل إنه لا يوجد دولة واحدة، في ذلك الوقت، احتملت وجود فرد واحد على أرضها لا يدين بغير ديانتها.
ليست نبوءة ولا رؤيا، لكن داعش بداية مرحلة انحطاط ستطول وتطول، ونرى فيها دواعش من جميع الطوائف والانتماءات، وستظهر نزعات المشرقية وغيرها ممن تبرر القتْل مقابل القتل، والانغلاق مقابل الانغلاق..
ويفوت "مشرقيو الدم" التناقض الأساسي في دعوتهم لـ"مقاومة مسيحية لا تخرج عن تراثها التنويري والعلماني والقومي والتحرري"، متناسين أن فشل الأنظمة العربية المعاصرة في بناء دول حديثة يتضمن فشلاً صريحاً وواضحاً لجميع مكوناتها الاجتماعية التي ظلت مجاميع وكتلاً بشرية حتى يومنا هذا.