درجت الأدبيات السياسية على القول إن الدولة تأكل أبناءها، أو الثورة تأكل أبناءها، وذلك إشارة لما يمكن أن يحصل حين تضحي الدولة بمواطنيها من أجل بقائها، وفي بعض الحالات يكون هذا الفعل محموداً ومقبولاً، ويعد من باب التضحية والتعبير عن الانتماء والمواطنة الحقيقية.
في الأردن يبدو الأمر معكوساً اليوم، حيث تشير بعض الأدلة إلى أن الأبناء هم الذين يسنّون أسنانهم للانقضاض على الدولة وقضمها، وتقاسمها، ومصّ دمها، وبلا شعور بالذنب أو وخز الضمير، إذ يرون أن من حقهم الانتفاع بما فيها وما لها، وأن هذا الحق مشروع من وجهة نظرهم، كما لو كانت الدولة مالاً خاصاً أو أملاكاً خاصة يمكن التصرف بها، واستغلالها لمصالح شخصية وفردية.
وربما يمكننا الإشارة إلى مجموعة من الممارسات التي تعد مؤشرات للتطاول على الدولة، والشعور بامتلاك الحق في الانتفاع بها وما توفره من خدمات. وإذا بدأنا من الممارسات البسيطة للموظفين وصولا للمسؤولين الكبار، فإننا نجد أن كثيراً من موظفي الدولة على اختلاف مستوياتهم أصبحوا ينظرون لمواقعهم على أنها طريق نحو تحقيق مصالح شخصية، وليست موقعا للخدمة العامة، وخدمة الوطن والمواطن. وبدون مواربة فإن الحديث عن الرشاوى والإكراميات والعطايا لم تعد سراً يخفى على أي مراقب، وهناك قصص كثيرة تكاد تطال كافة المؤسسات والوزارات، حتى الوزارات السيادية الخطيرة، والمواقع الحكومية المختلفة، وأن الموظف لم يعد عنده أدنى تأنيب ضمير في قبول المال مقابل خدمات حكومية قانونية أو غير قانونية، وذلك من باب أن الكل يسرق ويأخذ، وأن هذه "البقرة الحلوب" لا بد من تقاسمها بعدالة.
إن هذا الشعور الذي بدأ يتشكل لدى موظفي الدولة ينبئ بسلوك خطير وتفكير عدمي، سيكون له عواقب وخيمة ومدمرة في المستقبل، إن لم يتم تدارك الأمر بطريقة صحيحة، ووصف الدواء قبل استفحال الداء.
أما المؤشر الاجتماعي لذلك فهو الشعور العام لدى الناس بأن الدولة عدو لهم، تمص دماءهم، وتستغل وجودهم وجيوبهم، ولا تتورع في السطو على أموالهم كلما أمكنها ذلك، ولذا فإن الحل هو بالتعامل بالمثل، فلا يتورع المواطن من استغلال مرافق الدولة، أو تدميرها، أو العبث بها، أو سرقة ما تطاله يده منها، دون شعور بتأنيب الضمير، بل يعتقد أن من حقه ذلك، ما دام المسؤول يسرق وينهب ويتمتع، ولذا فإن الاعتداء على مرافق الدولة بكل مستوياتها بات أمراً واضحاً وجلياً، والأدهى من ذلك أنه أصبح مقبولاً اجتماعياً، وربما يعد من باب التفاخر والشطارة واستعادة الحق المسلوب!
وإذا نظرنا نحو المسؤولين الكبار في الدولة فإننا نجد الأمر أشد بلاءً، وأكثر إيلاماً، فهناك مؤشرات خطيرة ظهرت في الفترة الأخيرة، حيث نجد الوزير لا يتورع عن استغلال منصبه لخدمة نفسه وأقاربه وشلته، وليس أدل على ذلك مما حصل في تعيينات النواب، والصراع بين رئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب حول قضايا التعيينات، وكل منهما يريد أن يحصل على الحصة الكبرى، فهم لا يتصارعون من أجل مخالفات التعيينات، لكنهم يتصارعون من أجل تقاسم الحصص فيما بينهم. فإذا كان رئيس الوزراء لا يتورع عن تعيين أقاربه ومعارفه دون وجه حق، وبطرق ملتوية، فإن من حق الناس العاديين أن يستبيحوا مرافق الدولة ويسطوا عليها، على قاعدة أن لهم حصة، وأن ليس أحد خيراً من أحد.
أما اليوم فقد تبدو مؤشرات أكل الدولة أكبر من أي وقت مضى، حين يصبح القانون مستباحاً، وحين يصبح تغيير القوانين أمراً عادياً، وحين لا يحتاج تغيير الدستور لأكثر من ساعة، وحين يصبح أي مسؤول قادرا على تغيير القوانين والتلاعب بها، وتفصيلها على مقاسه، وكأنه خالدٌ في مكانه، دون شعور بالمسؤولية العامة للمستقبل، ودون النظر بعين رجل الدولة، وليس بعين صاحب الشركة الذي يريد تعظيم أرباحه ومغادرة السوق إلى سوق أخصب وأغلى، وفوق هذا وذاك دون خوف من المحاسبة. حينها تصبح العبثية سيدة الموقف، وتصبح الدولة في مهب الريح، حين تفقد المهابة من نفوس مواطنيها، لتتحول إلى غنائم يتقاسمونها على قارعة الطريق.
إنني أرى أن هناك خطراً قد يكون مدمراً في المستقبل، وأن كرة الثلج المتدحرجة ربما لا يستطيع أحد إيقافها، ومن ثم لا نستطيع الوقوف في وجه فشل الدولة أو سقوطها، وبعد ذلك لن يكون بأيدينا إلا البكاء والحسرة على وطن ضيعه مسؤولوه وأبناؤه، وليس حاسدية وأعدائه.
يوسف ربابعة: كاتب وباحث ورئيس قسم اللغة العربية في جامعة فيلادلفيا. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.