حين تنازل المجتمع عن سلطة "الوصاية"

حين تنازل المجتمع عن سلطة "الوصاية"
الرابط المختصر

في وقت مضى من زماننا ، كان (الابناء) يتحركون (بريموت) آبائهم او امهاتهم ، ويصمتون بإيماءة منهما او اشارة ، كانت العشيرة تلتف حول (عمدتها) وتدين له بالطاعة ، كان (المريدون) في المسجد يتحلقون حول (شيخهم) ولا يخالفون له أمراً.. كان الطلبة في مدارسهم (يقدّسون) معلمهم ويهربون اذا رأوه يسير في الشارع.

لم تكن هذه السلوكيات آنذاك تخضع لمنطق (الوصاية) ، أو - على الاقل - لم نكن نشعر بأنها كذلك ، وانما كانت تخضع لمنطق (الاحترام) والطاعة المتوارثة والخوف من (وصمة) المخالفة وما يترتب عليها من عقاب او ردّة فعل اجتماعية أو احساس (بالتمرد) المحفوف بالمخاطر.

مع التحولات التي طرأت على مجتمعنا واصابت قيمه وأخلاقياته ، تغيرت الصورة ، وتحول هذه (الفضائل) الى (محرمات) اجتماعية ، وأصبحت تعد في دائرة (الوصاية) المرفوضة التي لا تتناسب مع تطورات العصر ووسائل التربية الحديثة ، فالكل تمرد على الكل ، والكل استقل عن الكل ، ولم تعد لاحد (كلمة) على أحد ، واذا ما حصل فلمجرد (الاستماع) فقط ، أما ما بعده فمتروك للاجتهاد والتجربة تحت شعار (ارجوك لا تتدخل في شؤوني الخاصة) او ما شابهه من مقولات ترسخ معنى الاستقلال او الانسلاخ او (التفرد) بالقرارات والاحكام والممارسات ايضاً.

من المفارقات ان المجتمع تنازل عن سلطاته هنا ، ومنحها - رغماً عنه - للافراد ، وان الافراد - بالتالي - انسلخوا عنه ، وهربوا منه ، فيما عجز المجتمع عن الحصول على هذا الاستقلال ، فأصبح (ضعيفاً) وتابعاً ومقيداً باشارات افراده على اختلافهم ، ومن المفارقات - ايضاً - ان نزع (سلطة) الوصاية ترافق مع الغاء منطق المشاركة ومع تراجع مفاهيم التعاون والتكافل ، ومع تفكك الدائرة الاصغر وهي دائرة (الاسرة) ومع انحسار قيمة (المقدّس) سواء كان دينياً أو اجتماعياً ، ومع تدني مكانه (الكبير) سواء كان اباً او شيخاً او معلماً او عميد عشيرة مما مهّد الطريق لبروز نخب جديدة ، تؤمن (بالفردية) وتدين (للمنفعة) وتفرض (الوصاية) بوسائل عصرية تتناسب مع التغيرات التي اصابت المجتمع ومن ابرزها البحث عن المصلحة.

من المؤسف أن سقوط (الوصاية) الاجتماعية لم يتزامن مع ولادة (الفاعلية) الاجتماعية التي يستطيع المجتمع من خلالها ان يطور حركته وكفاءته وحيويته ولم يساهم في تحرير الجيل الجديد من الشعور او - حتى - الوقوع تحت قهر انواع جديدة من (الوصايات) ، ولم يخلق فرصاً تمكنه من استثمار (تمرده) او الاعتماد على ذاته او الخروج من دائرة (الاسيجة) التي رفضها الى دائرة الحريات والعدالة التي يفترض ان يسعى اليها.

ما حدث في الاطار (الاجتماعي) يصلح ان يكون بروفة لحالات وظواهر اخرى تتكرر على هامش المهادات السياسية والاقتصادية والفكرية ايضاً ، وما أصاب العلاقة بين الابناء والابناء ، والمعلمين والتلاميذ ، والشيوخ والمريدين ، اصاب ايضاً العلاقات الاخرى التي تربط الافراد بالاحزاب والمؤسسات والجامعات ، وأهم نتائجه - وربما اسبابه - هو اقتصار الثقة بين الكل ، وانقطاع الحوار بين الجميع ، وتصاعد وتيرة الصراع حتى داخل الاسرة الواحدة ، وتبدد مفاهيم وقيم المحبة والاخلاص ، وتوسع الفروقات والخلافات على حساب الجوامع والمشتركات.

لا تسأل: لماذا لا يسمع أبناؤنا أوامرنا ونصائحنا وارشاداتنا.. وانما أسأل: لماذا تركناهم يفعلون ذلك دون ان ننبس ببنت شفة؟،.