حلال للطير من كل جنس
باتت حوادث العثور على أطفال مقتولين وأنباء فقدان بعضهم وعدم العثور عليهم مثل أخبار مقتل جمع من الناس في تفجير أو غارة جوية في العراق المكلوم وسورية الجريحة واليمن المنكوب؛ يستقبلها الناس بكثير من اللا مبالاة التي تنم عن أن الظاهرة قد أصبح لها من الرتابة ما يجعلها غير ذات أثر كبير في وقعها على المتلقي.
كفاءة رجال الأمن في ضبط الجناة في حوادث قتل أو اغتصاب أو اختطاف الأطفال محلّ تقدير واحترام كبيرين، إلا أن هذا التحرك البعدي يأتي لمعالجة الواقعة الجرمية وليس لمنع حدوثها إذ هي قد وقعت ورتبت آثارها على الضحية وعائلته ومجتمعه.
كانت حادثة العثور على جثة الطفل المغدور في بركة مائية في منطقة سحاب من الحوادث التي تقشعر لها الأبدان والتي تمكّن رجال الأمن خلال فترة وجيزة من ضبط الجاني وإحالته إلى القضاء ليأخذ جزاءه العادل، إلا أن سلسلة الأحداث وواقع الحال الذي أودى بحياة الطفل المغدور لا تجد من يتلقفها بالتحليل والدراسة لكي لا يتكرر مثل هذا الفعل ويتم حماية الأطفال من الوقوع ضحايا لجناة موتورين بالبيدوفيليا والسيكوباتية الميؤوس من معالجتهما.
يستمرئ مجتمعنا احتضان الأطفال وتقبيلهم وحملهم وإجلاسهم في أحضانهم بوصف ذلك "تودداً وقربى وتدليلاً للصغير"، وقد يكون الأمر كذلك في جلّ حالاته، إلا أن خطورته تكمن في أن الصغير لا يغدو قادراً على تمييز من يجوز ومن لا يجوز له القيام بهذه الممارسات التحببية غير المستحبة، خصوصاً مع خواء مناهجنا ومنهجية تدريسنا وتثقيفنا للأطفال من تعليم الثقافة الجنسية التي من شأن تدريسها تنمية الملكات الحسية والنفسية لدى الصغير بحيث يصبح قادراً على حماية خصوصيته بشكل ذاتي أو الإفصاح عن أي فعل قد يشكل انتهاكاً أو هتكاً لهذه الخصوصية.
كيف يمكن للصغير أن يميز أن تقبيل ابن الجيران أو حارس العقار له هو أمر مرفوض؛ إذا كان يرى والده أو والدته تشكر وتبارك من يفعل ذلك من الغرباء أو ذوي القربى الآخرين؟ ما الضير في أن تقوم وزارة التربية والتعليم بتأهيل كوادر على كفاءة عالية لتدريس الأطفال الثقافة الجنسية بمنهج علمي يساهم في تنمية الهوية الشخصية ويعزز من أدوات الدفاع الذاتي عن النفس لدى الأطفال؟
يقيس في ما يبدو الكبار الأمور بميزانهم المختل في هذا المقام فيرون في العنوان ذاته “الثقافة الجنسية” محظوراً يحول دون الخوض في ما تحته من تفاصيل، فقد ارتبطت لفظة “الجنس” عند أجيال متعاقبة في مجتمعاتنا بالأفلام الإباحية والملاهي الليلية والممارسات غير الأخلاقية، فسحب من وصل من هؤلاء إلى مراكز رسم السياسات وصناعة القرارات رؤيته المختلة تلك على كل شيء دون استثناء، بما في ذلك الثقافة الجنسية التربوية التي تعمل العديد من دول العالم على تطويرها كل يوم فيما لا نزال نحن نتجادل حول مدى أخلاقية مجرد الحديث عنها!
من المفارقات والتناقضات أن السواد الأعظم من الناس في مجتمعاتنا يسلّمون بمشروعية ممارسات جنسية قبيحة الفحوى والنتائج بناءً على تقديس من قاموا بها؛ خصوصاً ما تعلق منها بزواج بعض من سبقوا بأطفال صغار وإقامة علاقات جنسية خارج نطاق الزواج مع الإماء المغصوبات المغتصبات عقب الغزوات والحروب بل والكشف عليهن حسياً في أسواق النخاسة من حيث ملاءة الصدر والأرداف ونعومة الجيد والشعر... فلا بأس عند رافضي تدريس الثقافة الجنسية للأطفال في هذا كله لكنهم تثور ثائرتهم إذا انصرف الحديث إلى ضرورة تعريف الأطفال على هويتهم الجسدية وترسيخ أهمية خصوصيتها وتعزيز أدوات حمايتها.
فهل صك صدر الجارية ودس اليد في ردفيها في الأسواق ثم مضاجعتها وربما عشرات معها ليلاً نهاراً جائز ومعقول، بينما تمكين الأطفال من ممارسة حقهم الطبيعي في التعرف إلى أجسادهم وهوياتهم وحمايتها مرفوض وغير مقبول؟ لله در أمير الشعراء شوقي حيث يقول: “أحرام على بلابله الدوح * حلال للطير من كل جنسِ”، وبالمناسبة وللمتناقضين أصحاب النظرة المختلة للثقافة الجنسية نقول: إن لفظة “جنس” في هذا البيت تعني النوع وليس المدلول المسف الذي يستثار عندكم في كل مرة يجتمع فيها حرف السين بالجيم والنون.
مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.