حقوق الإنسان، الشرعية الدولية والمعارك الوهمية

حقوق الإنسان، الشرعية الدولية والمعارك الوهمية
الرابط المختصر

سنوات طويلة والعديد من المنظمات الإقليمية و العالمية تبذل جهداً كبيراً فيما يعرف لدى الجميع ب "حقوق الإنسان"، هذا المقال لا يتناول هذه المنظمات بمسمياتها ولا حتى بتفاصيل عملها ونشاطاتها وإنما يقدم مساهمة نظرية في أسباب ظهورها وجدوى عملها بالاعتماد على نصوصها المعلنة من جهة والنتائج الملموسة تاريخياً من جهة أخرى. العديد من ناشطي اليسار تحديداً تدافعوا للعمل في هذه المؤسسات تحت شعار النضال الديمقراطي و ضرورة المرحلة، الفهم الواقعي للمراحل التي نعيش مهم، و من ينكر ذلك تحت شعار التغييرالفوري المباشر سيصبح حتماً عاجزاً عن لمس خطوات باتجاه التغيير، ولكن هذا لا يعني إطلاقاً التماهي المطلق مع الوضع الراهن و الإكتفاء بالتحليل دون صياغة برامج تقدمية جدية. فمن غير المقبول أن توافق منظمات يسارية على مواثيق تتناقض و بشكل صارخ مع أبجديات المنهج الماركسي!! يكفينا التعرض لبعض هذه البنود للكشف عن جوهر هذا التناقض و تبقى مسألة التعاطي مع هذه المؤسسات مرهونة بمدى جذرية التيارات السياسية التي تتعامل معها و صيغ هذا التعامل.

ميثاق حقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948

النص والممارسة العملية على الأرض

• "لكل فرد الحق في التملك لوحده أو بمشاركة الآخرين، لا يجوز حرمان أحد من حق التملك"

البند رقم "17"

هل من الممكن أن يختلف ماركسيان أن الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج ومحاربة الملكية الفردية هي "أ" في أبجديات الماركسية؟؟ كان من جملة ما قدمه كارل ماركس في المسألة اليهودية أن حق الإنسان في التمتع بثروته والتصرف فيها كما يشاء إنما هو الحق في الأنانية، وأن تلك الحقوق ما هي إلا حقوق الإنسان الأناني المفصول عن المتحد المجتمعي، ونابعة أساساً من روح مجتمع المزاحمة البرجوازي.

إن محتوى هذا البند كفيلٌ بنسف البند الأول من الميثاق ذاته والذي يدعو المجموع البشري إلى التعامل بروح الأخوة، كيف يمكن إنتاج أخوة بين وحدات إجتماعية متصارعة ومتزاحمة على المال؟ كيف يكمن إنتاجها في واقع فوضى السوق والملكيات الفردية المتناثرة؟ وإن كان المقصود الأخوة المستندة على الصدقات وإلقاء الفتات في صناديق التبرعات أو المساعدات الدولية المشروطة فتلك مصيبة أكبر!!

لا يمكن لك أن توقع هكذا ميثاق، وتقف في اليوم التالي في إعتصام حاشد ضد السياسة الإقتصادية الرأسمالية!! فالسياسة الإقتصادية قائمة أساساً على هذا البند الذي سبق وأن وافقت عليه، و "ناضلت من أجله"؟؟ فالملكية الفردية لوسائل الإنتاج هي الأساس لإستغلال العمال والمزاحمة و الصراع و "غياب الأخوة"و الفوضى و القمع الأمني وغياب الحريات الحقيقية في التعبير والتحشيد و إنعدام حقوق الإنسان الأخرى المدرجة في العديد من الإتفاقيات الدولية.

قد يصرخ العديدون من المتحمسين لهذا الشكل من العمل في وجهي: لا تكن رجعياً لهذا الحد ،العالم قد تغير ويجب أن تقرأ ماركس بحداثة أكثر. لا تمارس الجمود العقائدي بصبغة ماركسية. لا بد من الإستفادة من كل البنى التي قد تحقق مكاسب جزئية للفئات المهمشة.وما هو رأيك بالإنجازات التي حققتها المنظمات من ذات الطابع في الدول الأوروبية؟ ولماذا لا يكون بإمكاننا تحقيق إنجازات مشابهة؟ سوف أقول لهم: إن هذه المسألة تحديداً لا يمكن أن تخضع لإجتهادات وتباينات ، إما أن تكون ماركسياً أو لا تكون، لا يمكن لك أن تكون كذلك وأن تطالب بإجراءات من ِشأنها تشجيع الإستثمار والقطاع الخاص على حساب الثقافة الإنتاجية والتضامن الأممي!! فالملكية الجماعية هي حجر الأساس للبناء الإشتراكي الإقتصادي و الإجتماعي على حد سواء، لا يمكن لك أن تحلم وتطالب بمجتمع متآخي وتوافق على الملكية الفردية في الوقت نفسه!! لا يمكن لك أن تطالب بإلغاء التمييز العرقي أو الجنسي أو الديني وتوافق على الملكية الخاصة في الوقت ذاته، باختصار لأنها هويات تمايز لازمة وشرط موضوعي للمراكز الاحتكارية في العالم لمتابعة سيطرتها الإقتصادية. كيف يمكن لك أن تحلم بحرية الإختيار للعمل بعيداً عن تأثيرات العرض والطلب وتحكمهما بمستوى الدخل والمعيشة؟ ماذا لو قدر لرغبتك أن تكون في التعليم الأساسي لأبناء الفقراء في إحدى المدارس الحكومية؟؟؟

وبالمناسبة، إن هذا التحليل الشمولي للإقتصادي و الإجتماعي، لا تقر فيه فقط التيارات الماركسية الجذرية، حتى الليبرتاريين باستنادهم إلى أدبيات سميث وهايك يدعون مجتمعات البشرية بأكملها إلى الإنضواء تحت راية المنظومة الرأسمالية إقتصادياً وإجتماعياً، يطلبون من شعوب العالم بأخذ السلة كاملة دون تجزئة، إن قبلت بالاستفادة من علوم الحاسوب فعليك أن تقبل كذلك برقص التعري!! أخشى ما أخشاه أن تكون هذه التيارات قرأت أدبيات الماركسية أكثر منا نحن الماركسيين!!

أما فيما يتعلق بإنجازات هذه المنظمات في العديد من الدول الأوروبية، فلا يمكن إجراء مقارنة مجحفة بهذا الشكل بين مجتمعات تطورت رأسمالياً على المستوى الذاتي ومرت بالعديد من الثورات البرجوازية ضد الإقطاع وفي الوقت ذاته هي نفسها – بأسبقيتها في التطور- حرمت شعوب الجنوب من التطور الطبيعي. وبالمناسبة لو قمنا بإجراء مقارنة بسيطة بين المكتسبات التي حققتها الحركات العمالية المنظمة في أوروبا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مع ما أضيف عليها بعد ذلك، للاحظنا أن الفرق الأساسي على المستوى الإقتصادي والإجتماعي للشعوب الأوروبية قد حدث هناك نتيجة للتحركات العمالية المنظمة والجذرية.

• "يحرم الاقتناء والتجارة بالعبيد والتشغيل بالسخرة وكل أشكالها العلنية والمستترة ممنوعة".

لقد نزعت الرأسمالية الصفة العلنية عن الإستغلال العبودي، وبات هذا الشكل من الإستغلال مضمناً في السلوكيات الناعمة مظهرياً، بمعنى أن الإنسان الآن بإمكانه إختيار المكان الذي سيتعرض فيه للإستغلال، ولكن طوال الفترة ما بعد الإختيار ستنتزع الحرية وستقدم السخرات الجديدة، تحت ضغط المدراء و المالكين تسقط صفة الحرية التي يروج لها منظرو الرأسمالية، فالحرية التي يروجون لها هي حرية الأقلية. أما ديكتاتورية البروليتاريا ، التي ينتقدونها بمعاونة اليساريين الحداثويين، فهي حرية الأكثرية. إن العبودية التي تمارس اليوم في حق الإنسان هي إغراقه في ساعات العمل الطويلة، وإشعاره دائماً بالتهديد والخطر من بطش القطاع الخاص ، ومع مرور الزمن تجريده من الإحساس بغياب الأشياء الجميلة في الحياة، تجريده إلى حد يصبح فيه أي وقت خارج ساعات العمل هو وقت فراغ؟؟

الطبقة العاملة الجديدة لا تضرب بالسوط، ولا تسجن في المصانع رغماً عنها، ولكنها تعتقل وتعتقل نفسها تحت ضغط التهديد الدائم وآليات التفريغ من الإحساس بجماليات الحياة.

• "يمنع ممارسة التعذيب ولا يجوز تعريض الفرد لعقوبات أو معاملة قاسية أو وحشية من قبل أي جهة كانت ولأي سبب كان."

أين كان هذا البند غائباً عند تعذيب سجناء أبو غريب في العراق بآليات القهر الجسدي و النفسي في الوقت الذي يتلقى فيه منتظر الزيدي العقوبة مباشرة دون أي إنتظار؟ أين كان عندما عذب أنصار السلفادور الليندي في تشيلي بعد إسقاط نظامه العادل بمؤامرة مكشوفة من الولايات المتحدة الأمريكية؟ أين كان عندما فتحت غوانتانامو أبوابها لابتلاع الضحية تلو الأخرى وإضطهادها بآليات التعذيب عالية التقنية؟ أين كان عندما أبدعت الأنظمة العربية المتآمرة في تعذيب قيادات إنقلاب الصخيرات في المغرب العربي؟ أين كان عندما جلبت العناصر الاستشارية من الغرب لتطوير أليات التعذيب للسجناء السياسيين في السجون الصحراوية في الأردن؟ أين هو الآن حين يخطف الناشطين السياسيين من الشوارع ويساق بهم إلى الأقبية المعتمة ليمد لهم هناك العصا و الجزرة؟

• "لا يجوز التدخل في خصوصيات الفرد ولا عائلته ولا منزله ولا مراسلاته ولا اتصالاته ولا يجوز التهجم على سمعته ولا كرامته. ولكل فرد الحق بحماية قانونية ضد هذه المخالفات."

سأتناول في هذا البند الجانبين الإقتصادي و الأمني: على الصعيد الإقتصادي فقد خسر الإنسان خصوصيته في ظل الرأسمالية على الرغم من إرتفاع منسوب أنانيته!! فشركات القطاع الخاص تمضي في إقتناء وتطوير أنظمة المراقبة الصورية والصوتية من باب حرصها على تطوير الأداء. لا يمكن أن يفهم بند كهذا بل لا يمكن تطبيقه أساساً في ظل الرأسمالية، كيف يمكن أن يطبق مع الرغبة الدائمة للمالك في حصار الموظفين المشكلين للطبقة العاملة الجديدة؟ كيف يمكن له أن يطبق مع ضرورة المراقبة التي تحمي مصالح الأفراد والمؤسسات؟

أما على الصعيد الأمني فقد استخدمت مؤخراً تقنيات عالية المستوى كالذكاء الإصطناعي تحت عنوان حماية الأمن القومي ومحاربة الإرهاب؟

فيما يتعلق بالشق الإقتصادي: فتلك شرعية رب العمل لحماية مصالحه الخاصة، وتلك أدواته لرفع منسوب التهديد والخطر.وفيما يتعلق بالشق الأمني فتلك "المصلحة العامة" التي تتمثل في حماية حياة الأفراد من الإستهداف!!

خلاصة

تبدو المفارقات أعلاه بسيطة وواضحة، نعم ذلك صحيح. المقصود من هذا هو ليس إعادة هذه المفارقات بقدر دعوة التيارات السياسية المعارضة وبالأخص اليسارية منها إلى تجديد آليات التعاطي مع ما يسمى الشرعية الدولية، القانون الدولي، مواثيق حقوق الإنسان، وكالة الطاقة الذرية، البنك الدولي، صندوق النقد الدولي... ولقد تعمدت إدراجها معاً نظراً للعلاقة الوطيدة فيما بينها وبين مؤسسات أخرى كثيرة.

إن المواثيق الحقوقية حالها حال قرارات الشرعية الدولية، تصاغ وتفسر وتنفذ كيفما تريد المراكز الإحتكارية و القوى الكبرى، فتلك التي تخدم إسرائيل في حرب ال73 هي ذاتها التي تخذل العرب في ال 67. تلك التي تخذل ميلوزيفيتش هي ذاتها التي تحمي بوش. تلك التي تخذل محجوب في السودان هي ذاتها تحمي بينوشيه في تشيلي.

لقد طال بنا الوقت في الهرولة وراء إنتزاع الشرعية الدولية وتطبيق ميثاق حقوق الإنسان العالمي، وما زالت القضية الفلسطينية عالقة، وما زال العراق محتلاً، ومازالت المؤامرات تطارد فنزويلا، وما زالت الأحزاب السياسية ذات البرامج اللارأسمالية أبعد ما تكون عن إستلام السلطة السياسية. إن المعركة في سبيل الديمقراطية بالآلية الحالية يجب أن تتراجع لحساب المعركة في سبيل العدالة الإجتماعية أو أن تكون مضمنة فيها، بمعنى أن التفاوض الناعم على تشريعات جزئية يمد من عمر الرأسمالية نفسها و يخلق لها هامش مناورة أوسع. لن تعطي الديمقراطية البرجوازية أي مساحة تضر بمصالحها وحالة أمريكا اللاتينية ليست إستثناءأً، فالأنظمة التقدمية التي وصلت إلى السلطة السياسية ديمقراطياً هي ذاتها التي خاضت معركة العدالة الإجتماعية بأولوية ، وكانت المعركة الديمقراطية هي آخر المحطات والثمرة الحقيقية للعمل السابق.

هناك العديد من الحزم القانونية المقيدة للحريات ولكن هناك الأكثر من الحزم القانونية النجويعية وعلى رأسها قوانين الإستثمار والضرائب والتأمين، تصفية وخرق القوانين المقيدة للحريات يأتي في سياق تصفية القوانين التجويعية، الأمر الذي يتطلب تحشيد شعبي في هذا الإتجاه وتهيئته لخوض المعركة على هذه الأرضية، وبعد تحقيق إنجاز في هذا السياق ستنخفض فاعلية الحزم المقيدة للحريات إلى حد كبير جداًً.