جسد المرأة ومعايير الجودة
“مر ابن عمر على قوم يبتاعون جارية فلما رأوه وهم يقلبونها أمسكوا عن ذلك فجاءهم ابن عمر فكشف عن ساقها ثم دفع في صدرها وقال اشتروا”، قال معمر وأخبرني بن أبي نجيح عن مجاهد قال: “وضع ابن عمر يده بين ثدييها ثم هزها . وفيه عن عبد الرزاق عن بن عيينة عن عمرو بن دينار عن مجاهد قال كنت مع ابن عمر في السوق فأبصر بجارية تباع فكشف عن ساقها وصك في صدرها وقال اشتروا يريهم أنه لا بأس بذلك”.
هذه ليست مقطتفات من قصص جنسية تباع خلسةً وخفيةً عىل بسطات وسط البلد تحاكي خيالات مراهق، وإنما روايات موثقة لممارسات وقعت تعكس الجموح الجنسي في أبشع صوره والامتهان الآدمي لكرامة المرأة في أقبح أشكاله. لو أن كاتباً ما راق له حذف الأسانيد والمراجع وقام بنشر ما بين المزدوجات على شكل قطعة نثرية مرسلة، لقامت عليه الدنيا ولم تقعد ولكان مصيره السجن لارتكابه جملةً من جرائم الإباحة الجنسية بمسمياتها المختلفة في التشريعات العقابية.
لا يكاد العقل يستوعب كيف أن ثلةً من النخاسين يجتمعون حول امرأة و”يقلِّبونَها” ولاحظ التعبير: “يقلِّبونَها" وكأني بهم يتفحصون بقرةً أو عنزةً قبل شرائها بل الصورة أحط من ذلك فهم يتفحصون إنساناً لغايات جنسية محضة ليتحققوا من درجة انتفاخ الصدر واشتداده وعدم ترهله وكذلك الأمر امتلاء الفخذين وربما نعومتهما! ثم تنحدر الصورة إلى دركٍ لم يخطر على البال، إذ تظهر في خلفية المشهد إحدى أبرز الشخصيات الدينية والاجتماعية فيستاء من توقف النخاسين عن تفحص الجارية فيقود عملية الكشف الجسدي الجنسي بنفسه فـ”يضع يده بين ثدييها ويهزهما ويصكّهما” ثم يقول لهم: “اشتروا”! فالبضاعة سليمة وخالية من العيوب!
من أسخف ما قرأت في تبرير هذه الانتهاكات الجنسية الجماعية العلنية ما يقوله بعض الشهوانيون من عبدة التراث بعجره وبجره حيث يقولون: “إن هذه التصرفات يجب أن توضع في سياقها الزماني والمكاني والثقافي، حيث الجواري هي عبارة عن مال منقول”، وهنا ينسى هؤلاء كلامهم المعسول عن؛ تكريم المرأة واحترام كرامتها وإنصاف “العبيد”، إذ تصبح مثل هذه الشعارات غير ذات جدوى أمام هذا المد العاتي من النقول المسفّة التي تنزل بكرامة الإنسان إلى ما دون كرامة الحيوان.
الحديث عن السياق والثقافة السائدة يؤكد على أن احترام الكرامة الآدمية وتكريم المرأة يتعامل معها كهنة النقول بوصفها مجرد شعارات وليس قيم ثابتة ومبادئ راسخة، والفرق بين الشعار والمبدأ هو أن الأول عبارة عن جمل وتراكيب رنانة وطنانة تستخدم لغرض سياسي مرحلي قد تكون فيه “المداراة” أو “التقيّة” سيدة الموقف، في حين يشكل المبدأ ركيزة وأساس الممارسات القائمة عليه التي تجلّي فحواه وتعكس كنهه دون تحويل أو تبديل.
يفسر هذا الخلط المقصود بين الشعار والمبدأ خصوصاً في مجال حقوق المرأة واحترام كرامتها؛ منافحة العديد من مشايخ الندوات والقنوات الفضائية عن حق المرأة ومساواتها مع الرجل من منطلقات شعاراتية دينية وليس من ثوابت مفاهيمية مبدئية، لذلك لا ضير أن يكون أحدهم قد قام بضرب زوجته وقامت هي بنعلِه الحذاء وهو يجلس على كرسيّه سلطاناً مبجّلاً ويأمرها بأن تتصل بالأقارب والجيران ليشاهدوه على التلفاز وهو يتحدث بما لا يفعل. لقد حدث فعلاً وأقر أحد كبار المشايخ في أحد اللقاءات الحوارية حول حقوق المرأة –حيث كنت حاضراً- فقال: “المرأة واجبٌ تكريمها ومحفوظٌ حقها وقدرها، فإنني أعترف أنه لولا المرأة لما قدّر لي أن أكون بينكم أتحدث، إذ هي من غسل ثيابي وكوتها ونظفت حذائي وأعدت لي كل ما يلزم للظهور أمامكم بمظهر لائق”!
الانفصام الهوياتي الثقافي الذي يعيشه الكثيرون من أبناء هذه الأمة مردّه ازدواجية منظومة التشريعات الناظمة لحقوق الإنسان في بلادنا، ففي حين تدفع الدولة رواتب من يعتلون المنابر ليشجعوا العامة على تعدد الزوجات ويرون قصص “تقليب بعض السلف للجواري وتفحص أثدائهنّ وسيقانهنّ وأردافهنّ”؛ دون أن يتجرأ أحدهم ليقول أن هذه الممارسات تشكل انتهاكاً صارخاً للكرامة الآدمية وممارسةً مخجلةً ينبغي التبرؤ منها أيّن كان فاعلها، وعوضاً عن ذلك يبرهن بعضهم من خلال هذه القصص المقززة على “تحريم الغبن والغش” في البيع والشراء! في حين ترعى الدولة ذلكم كله تشريعياً ومؤسساتيا، فإنها تسارع إلى المصادقة على اتفاقيات حقوقية دولية تلتزم بمقتضاها بتعديل منظومتها التشريعية والسلوكية الجمعية لتتواءم وأحكام تلكم الاتفاقيات، لينتهي المشهد بديالوج يعكس أشرس أنواع التناقض القيمي وبمونولوج يجعل منا نكتةً سخيفةً على مائدة الحوار أمام اللجان الأممية التي نذهب إليها طواعيةً لنقول لها كم نحن “كيوت وكول ومنسجمون مع المبادئ والقيم المتحضرة”.
إن مجرد وجود رجال أو سيدات يمثلون التيار الديني في وفود الدول الإسلامية الرسمية أمام لجنة الأمم المتحدة لاتفاقية مناهضة كافة أشكال التمييز ضد المرأة لدليل على خطوة دفاعية استباقية مرجعها قناعة داخلية لدى الجميع بأن ارتباط الدين بالتشريعات الناظمة لحقوق المرأة في الميراث والزواج والطلاق والحضانة وغيرها؛ هو أمر تأباه طبيعة الحق ومقتضيات تحقيق المساواة وتكافؤ الفرص بين الجنسين .
على كل مخلص ومنصف ومتصالح مع نفسه أن يجاهر ببراءته من ممارسات النخاسة الرخيصة التي تحظرها حتى التشريعات الناظمة لممارسة البغاء في الدول التي تقنن ممارسته،
فليكن في مواجهة من هزّ الثديين والردفين لامرأة بريئة مسترقّة للتحقق من مطابقتها لمعايير الجودة الجنسية؛ من يهز الكتفين ويرفع الحاجبَين رافضاً لكل ما من شأنه امتهان كرامتها، منادياً بتحكيم معايير حقوق الإنسان التي تأبى تصور حدوث مثل هذه الممارسات الشاذة بغض النظر عن زمانها ومكانها وأياً من كان المعتدي مبتدع ومقترف هذه الأفعال الجرمية.
مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.