جدتي تؤرخ لحربٍ لا تنتهي

جدتي تؤرخ لحربٍ لا تنتهي
الرابط المختصر

إنها الحرب! إنها الحرب!

يا ملاك الرب قاوم.. ولتتدخل أنت في الجدل.

إنها الحرب للأسف.. وكم أشتهي.. ألاّ يكون لي ذنب فيها !
تعود بي كلمات الشاعر الألماني كلاودوس هذه إلى ثمانينيات القرن الماضي. كنت طفلاً في المرحلة الابتدائية في أبو ظبي، وكانت الحرب العراقية الإيرانية في ذروتها، ونشرات الأخبار تتالى على شاشات التلفزة وعبر الإذاعات تصور وتسرد أخبار الحرب التي طالت من دون حسم أو نهاية متوقعة!
في طريقي إلى المدرسة، أركب برفقة أبي وخالي الذي يقود بنا السيارة منصتين إلى نشرة الأخبار، حيث لا يكل المذيعون والمعلقون عن تحليل آثار الحرب ومستقبلها، ليقطع الصمت فجأة حديث لم تكن مرجعياته السياسية أو الفكرية تؤهل لطرح وجهات نظر متماسكة ومعقولة؛ فمركب اليأس والاحباط لعب دوره الكبير وما يزال في تحريك الجماهير العربية وإخمادها كذلك.
لم يكن نقاشاً طويلاً أو مبنياً على جدلية ما، وكان ينتهي سريعاً مع الإحساس المريع بالعجز العربي في ذلك الوقت وإلى الآن. كطفل، رافقني الشعور بأن تلك الحرب مؤلمة؛ قتلى بالعشرات وجرحى بالمئات، وفوق ذلك كلّه كان العدو محض تخييل، حيث الخرافة الذي تحيط به أكبر بكثير من حجمه أو طبيعته، وتماثل هذا الموقف الفطري مع موقفي بعد أكثر من ثلاثين عاماً، حيث الحروب في المنطقة خلّفت أوجاعاً كثيرة، وإن اختلف المنظور المعرفي والأيديولوجي إليها.
وعيت الحرب مجرد خلفية غير مثيرة على الإطلاق، كنت أنساها رغم حضورها الطاغي بالنظر إلى إقامتي في الخليج (الطرف المشارك في الحرب والداعم الرئيسي لها)، أتساءل ببراءة عن معنى الحرب وجدواها، بالنظر لعدم انتصاري لفريق من الأفرقاء المتصارعين، إضافة إلى ذلك الدمار الذي يعني الخسارة والفقد، لكنني بعد سنين ليست بالطويلة، أيقنت أن الحرب تلد حروباً أخرى وهو المعنى الأعمق للدمار!
كنت أنتظر بشوق انتهاء نشرة الأخبار لأسمع قبل وصولي للمدرسة أغنية لفيروز أو وديع الصافي أو إحدى الأغاني اللبنانية التي كانت تبثها مونتي كارلو قبل وبعد كل نشرة؛ وأعني هنا أغنيات طوني حنّا وعازار حبيب وسامي كلارك ودورا بندلي وملحم بركات وماجدة الرومي.
أغانٍ على وقع الحروب، فيما كانت جدتي توّقع على لحن آخر حين كانت تروي لي ولأحفادها الذين جاوزوا الثلاثين تفاصيل النكبة، وهي التي شرّدت من أرضها صبية في السادسة عشرة من عمرها، تاركة خلفها حقول البرتقال في قريتها سيرين الواقعة قرب مدينة بيسان. لقد كبرت حبات البرتقال أضعافاً أضعافاً لتشكل حلم جدتي.
"في البلاد" مفردة تساوي الفقد، لذا ولد الحلم بتلك البلاد كبيراً، حتى أنها تناسلت قصصاً وحكايات تروي بطولات وأمجاداً وعزاً وكرامات طوال سبعين عاماً عاشتها جدتي، في نهاية كل قصة أو رواية تفرّ دمعة جدتي وهي تتحسر على البلاد التي دمرتها قوات الاحتلال الصهيوني بالكامل لتختفي بلدتها سيرين عن الوجود وتذوب دموع جدتي ملحاً على يدي التي تمسحها.
كانت جدتي امرأة بعزيمة لا تلين.. تمتلك صلابة نادرة وإرادة استثنائية استطاعت أن تربي أحد عشر ولداً وتدفع بهم جميعاً إلى المدارس والجامعات، تجيد بذلك كل أنواع وأشكال التحريض على العلم رغم أميتها، تلك الأمية التي اجترحت وعياً استثنائياً حيث كانت تمتلك ذاكرة قوية جداً تؤهلها لسرد واقعة ما مئات المرات من دون أن تحذف أو تضيف كلمة واحدة كلما روتها، كما أنها كانت تحفظ تواريخ ولادة أولادها وكل من جايلهم بالساعة بل وبالدقيقة، ولم يكن يكتشف أبناؤها وأصدقاؤهم أميّتها إلاّ بعد تقدمهم سنوات في دراستهم!
صاغت جدتي وعيها حريصة كل الحرص على الزمن بكل تواريخه ووقائعه: تتشكل الحياة في 15 أيار 1948، وفق تقويم تراكم عليه ولا تحذف، وفي كل مرة تضاف هزيمة جديدة أو انكسار آخر يبعدها عن سيرينها. كانت رغبة كامنة تدفع بها نحو مزيد من الحياة ومزيد من الأمل.
تبعت رائحة البرتقال في أحاديث جدتي، لأعي مبكراً معنى أن يستقر الوطن في الحلم، ومعنى أن يعيش المرء حياة افتراضية تبدو كاملة بما فيها من حس وحدس، لكنها في الوقت نفسه حياة مرهونة بمكان ما لا يراه إلاّ في حلمه! معنى أن تنسج الحرب هاتين الحياتين وتفصم إنساناً بينهما يقيم بعقله هنا فيما قلبه هناك!
أرّخت جدتي للحرب منذ احتلال فلسطين، وفي كل حرب تشير إلى النكبة مولّدة لكل الحروب التي تلتها: ..... انتهت الحرب العراقية الإيرانية ومعها الحرب الأهلية اللبنانية، وفي فترة قياسية عايشت: حرب الخليج 91، الحرب الأميركية على العراق 2003، عدوان تموز 2006، وثلاث حروب غاشمة ضد غزة، واليوم صراعات أهلية في أكثر من بلد عربي، وتخلل تلك الحروب انتفاضتان ضد الاحتلال الصهيوني.. كنت في كل حرب أعيش انحيازاً ما وأخرج بخسارة معينة تعيدني إلى عبارة كلاودوس: إنها الحرب للأسف، وكم أشتهي ألاّ يكون لي ذنب فيها!

 

* المقال ينشر للمرة الثانية عقب مضي سبعة أعوام على نشره مع التعديلات اللازمة للحرب التي لا تنتهي.

 

  • محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.
أضف تعليقك