عند مراجعة أدبيات أكاديميين وأساتذة جامعات تخص السياسة والمجتمع، فإننا نجد أهم الملاحظات والاعتراضات التي يتحدثون عنها تتعلق بقضايا المشاركة السياسية والشفافية والمؤسسية في اتخاذ القرارات والبعد عن الفردية والمزاجية، حتى يبدو واضحاً من حديثهم أن هناك خللاً في اختيار رئيس الوزراء –مثلاً- واختيار الوزراء من بعده، ووجه اعتراضهم أنه ليس هناك معايير مقنعة للاختيار، الذي يتم على أسس انطباعية لا معايير الكفاءة والقدرة. ثم يتواصل الاعتراض على كل تعيينات الدولة، خاصة في المناصب العليا، فنجد كثيراً من الأكاديميين والأساتذة يملؤون الفضاء بمقالات تفيض بالمثالية عن شكل الدولة والمؤسسات، ويطالبون بوضع المعايير والشروط المقنعة والشفافة، من أجل إقناع الناس بالقانون والعدالة.
إنه كلام جميل وله طعم شهي، لكن المشكلة تكمن في التناقض الصارخ بين ما يطالبون به وبين ما يقومون به على أرض الواقع، فهل يؤمنون بما يقولون ويطبقونه في جامعاتهم عندما يتسلمون المناصب الإدارية فيها؟ أم أنهم يقولون ما لا يفعلون؟
إذا ذهبنا مباشرة إلى أي جامعة في الأردن، حكومية أو خاصة، كبيرة أو صغيرة، قديمة أو حديثة، وطلبنا من رئيسها أن يعطينا الأسس والمعايير التي اتبعها لتعيين نوابه وعمداء الكليات ورؤساء الأقسام، والمدراء، فهل نجد لديه جواباً؟ وهنا أترك المجال والإجابة لمن أراد أن يعرف بنفسه، لأنني -في حدود علمي– لا أعرف جامعة واحدة تمارس سلوكاً ديموقراطياً، أو تتبع أية معايير في مثل هذه الاختيارات.
يختار الرئيس يختار أصدقاءه وشلته ومعارفه والمحسوبين على منطقته، والموصى عليهم من هنا وهناك، ومن ثم يكون مجلس العمداء في الجامعة عبارة عن شلة، تمارس القمع والتهميش والإقصاء لمخالفيهم، باسم القانون الأكاديمي، حتى في الترقيات ودعم البحث العلمي. فعلى سبيل المثال هناك أساتذة يحصلون على الترقية خلال أشهر قليلة من تاريخ تقديمهم للطلبات، وآخرون تترك أوراقهم على الرفوف سنوات من دون أن ينتبه لها أحد. إنه الفساد الأكاديمي المسكوت عنه في جامعاتنا، والمختفي تحت عباءة الأكاديمية الزائفة.
كان يطالب أغلب الأكاديميين من النظام، ومن الملك خاصة أن يختار رئيس الوزراء ضمن آلية ومعايير محددة، ثم يطالبون رئيس الوزراء أن يضع لهم معايير لاختيار الوزراء، ويبدو أن اختيار رئيس الوزراء في آخر مرة قد تم من خلال مشاورات وتفاهمات، حتى لو كانت شكلية. ثم كانت مطالباتهم بتطوير طريقة لاختيار رئيس الجامعة، وقد استجابت الحكومة لهذا الطلب، وتم ذلك من خلال معايير وطلبات ولجنة اختيار، وهذه تطورات جيدة في الوقت الحاضر، لكن online casino هذا الرئيس الذي تم اختياره بمعايير ولجنة يعود ليمارس أقصى درجات التسلط والفردية، من غير أن يكون لديه أي معايير لاختيار المناصب الإدارية في الجامعة، يعني أنه بعد تعيينه ضمن أسس ومعايير ينسى ما جاء به ليعود دكتاتوريا يقرّب من يشاء ويبعد من يشاء، لتتشكل حوله بعد ذلك عصابة من معارفه ومريديه، توافق على ما يريد، وتزين له وجه الباطل، وتشوه وجه الحق، وتتحول الجامعة إلى مؤسسة تمارس القمع والفساد في التعيينات والقرارات جميعها.
لقد كان الأولى بالأساتذة والأكاديميين أن يقدموا نموذجاً ديموقراطياً في جامعاتهم، ليكون مثالاً يُحتذى في المجتمع، ومنارة يسير على هديها الآخرون، وفي ظني فإنهم لو قدموا هذه النماذج منذ عشرات السنين لتغيّر المجتمع اليوم في سلوكه وأفكاره، إذ إن الأفكار تنتقل بالعدوى، وكان أولى بمن يحملون راية التغيير –كما يدّعون- أن يقودوا المجتمع نحو التقدم والتطور.
هل كان ينتظر الأكاديميون وأساتذة الجامعات من الآخرين أن يمارسوا الديموقراطية، ويحتكموا للمعايير المؤسسية، أن يبقوا هم خلف أسوار الجامعات يمارسون سلطاتهم الفردية دون معايير ولا مؤسسات؟ وهل ينتظرون أن يغيّر نظام الحكم طرقه وأساليبه، ويصبح ديموقراطياً، وينخذ قراراته بشفافية حتى يستفيدوا منها، ويبقون هم في مكاتبهم يمارسون سلطتهم الزائفة بغطاء الفكر والمعرفة؟ هل يدركون دورهم بالفعل؟ أم أن معظهم عبارة عن مجموعة من المتكسبين والانتهازيين والمقموعين؟
- يوسف ربابعة: كاتب وباحث ورئيس قسمي اللغة العربية والصحافة في جامعة فيلادلفيا. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.