تناقضات تشريعية في مجلس الأعيان

تناقضات تشريعية في مجلس الأعيان

شهدت أروقة مجلس الأعيان مؤخرا نشاطا تشريعيا ملحوظا تمثل في التعاطي مع العديد من مشاريع القوانين التي أرسلت إليه من مجلس النواب، حيث تباينت المواقف التشريعية للمجلس المعين واختلفت توجهاته بشكل يصعب معه تصور سياسة عامة يتبناها أعضاؤه الذين يشكلون الغرفة التشريعية الثانية في مجلس الأمة الأردني إلى جانب مجلس النواب. ففيما يتعلق بمشاريع القوانين التي لم تثر حولها أية إشكاليات قانونية أو وجهات نظر متباينة، فقد جاء رأي مجلس الأعيان مطابقا لرأي السادة النواب، حيث أقر تلك المشاريع بكل سهولة ويسر وبوقت زمني قصير، وتم التصديق عليها ونشرها في الجريدة الرسمية.

في المقابل، وفيما يتعلق بمشاريع القوانين الجدلية والتي انقسم حولها الرأي العام والسياسيون في الأردن، فقد تبنى مجلس الأعيان موقفا تشريعيا صلبا بأن أصر على موقفه وقاتل حتى النهاية في سبيل فرضه على مجلس النواب، كما حدث في قانون جوازات السفر الأردني الذي أقره مجلس الأمة مؤخرا في جلسة مشتركة، والتي حسمها السادة الأعيان لصالح تغليب وجهة نظرهم الخاصة بعدم إدراج عنصري اللقب والمهنة إلى جوازات سفر الأردنيين وذلك على خلاف ما اقترحه مجلس النواب.

واللافت للنظر أن هذا النصر التشريعي الذي حققه مجلس الأعيان في الجلسة المشتركة قد جاء في ظل عدم اكتمال صفوفه جراء النقص الحاصل في عدد الأعيان عما درجت عليه السلطة التنفيذية من ممارسة غير حكيمة تتمثل في تعيين نصف عدد النواب تحديدا في مجلس الأعيان. فقد تمكن مجلس الأعيان من فرض سطوته على مجلس النواب في الجلسة المشتركة، وانتزاع ثلثي أصوات الحاضرين للتصويت على تبني وجهة نظره التشريعية رغم غياب الثلث المعطل لأول مرة عن الجلسة المشتركة. فنسبة الأعيان المعينين إلى أعضاء مجلس الأمة مجتمعين دائما ما تكون الثلث على اعتبار أن عددهم هو نصف عدد النواب، وبالتالي فهم يشكلون ثلثا معطلا لإصدار القرارات في الجلسة المشتركة التي حدد لها الدستور أغلبية الثلثين لصدورها.

وقد استمرت السياسة التشريعية الحكيمة من مجلس الحكماء والعقلاء في مشروع قانون الكسب غير المشروع – من أين لك هذا، حيث رد مجلس الأعيان مشروع القانون إلى مجلس النواب محتجا على اسم القانون الذي لن تجد له مثيلا في أية ديمقراطية نيابية. فهو يتنافى مع أبسط القواعد القانونية في التشريع وسنّ النصوص القانونية التي تعتمد أسلوب التجرد والموضوعية، وأن القانون يصدر لينظم المراكز القانونية للأفراد مفترضا قرينة البراءة. كما رفضت اللجنة القانونية في مجلس الأعيان معظم البنود التي أضافها مجلس النواب على مشروع قانون إعادة هيكلة المؤسسات والدوائر الحكومية لعام 2013 فيما يتعلق بالهيئات والمؤسسات التي سيتم دمجها أو إلغاؤها والتي جاءت عشوائية تفتقر لأسانيد ومعايير واضحة في اختيار تلك المؤسسات والهيئات.

إلا أنه وفي خضم هذه الحملة التشريعية التي وفق فيها مجلس الأعيان في تجاوز عثرات مجلس النواب، فقد وقع المجلس في عثرات ومطبات تشريعية عديدة أهمها رفضه إقرار مشروع قانون الكسب غير المشروع بأثر رجعي وذلك بحجة أنه يتناقض مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وأنه يخالف حقوق الأفراد المنصوص عليها في الدستور والقوانين ذات العلاقة، وبحجة احترام مبدأ استقرار المراكز القانونية.

إن هذا الموقف المستغرب لمجلس الأعيان من سريان القانون بأثر رجعي يخالف أصول التفسير والبناء القانوني ذلك أن مشروع القانون الجديد قد نص صراحة على اعتبار أحكامه سارية المفعول على جميع الأشخاص الخاضعين لأحكام قانون إشهار الذمة المالية رقم (54) لسنة 2006 الذي سيتم إلغاؤه بصدور القانون الجديد، وأن جميع الإقرارات المقدمة وفق أحكام ذلك القانون تعتبر كأنها مقدمة بمقتضى أحكام القانون الجديد. فهذه الأحكام والنصوص التشريعية تعطي غطاء لمشروعية تطبيق أحكام القانون الجديد على الأفعال التي وقعت في ظل القانون الحالي قبل إلغائه. كما أن القانون الجديد عند إقراره لن يطبق على أفعال كانت مباحة ومشروعة قبل صدوره وصيرورته نافذا، بل سيشمل أفعالا مجرمة في ظل القانون الحالي قبل إلغائه، والذي أفرد لها عقوبات جزائية في حال ارتكابها.

إلا أنه ونتيجة ضعف التطبيق العملي للنصوص القانونية الحالية وغياب آلية ملاحقة واضحة وفعالة، فقد ارتأى المشرع الأردني لإجراء تعديل على الأسلوب الذي سيتم فيه ملاحقة مرتكبي تلك الجرائم والعقوبات التي يمكن أن تفرض عليهم. وهذه التعديلات لن تلغي عن الفعل الصفة الجرمية، ولن تعفي مرتكبيه من العقوبة بمجرد تعديل القانون أو إصدار قانون جديد يغير في المسميات والآليات فقط دون الجرائم المرتكبة. فالقانون الجديد لن يطبق على أفعال كانت مباحة وقت ارتكابها، بل سيطبق على أفعال كانت وما زالت من قبيل الجرائم، وما اختلف فقط هو آلية التطبيق. وخير مثال على ذلك أن تعريف جريمة الكسب غير المشروع قد بقيت كما هي في القانون القديم مع اختلاف التسمية، والتي قوامها "كل مال منقول وغير منقول حصل أو يحصل عليه أي شخص تسري عليه أحكام هذا القانون لنفسه أو لغيره بسبب استغلال منصبه أو وظيفته أو المركز الذي يشغله أو بحكم صفة أي منها".

ويستمر النقد البناء للسياسة التشريعية لمجلس الأعيان فيما يخص مشروع قانون المالكين والمستأجرين الذي رده المجلس إلى السادة النواب بالصيغة الذي تقدمت به الحكومة ابتداء رافضا جميع التعديلات الذي أدخلت عليه من حيث نظام الزيادات على الأجرة السنوية كبديل لأجر المثل، والامتداد القانوني لعقد الإيجار.

إن ما دفع مجلس النواب إلى إلغاء أجر المثل والاستبدال به زيادة ثابتة على الأجرة السنوية القرار الصادر عن المحكمة الدستورية بعدم دستورية المادة (5) من قانون المالكين والمستأجرين حول قطعية أجر المثل، والذي تضمنت حيثياته توجيها للمشرع الأردني بإعادة النظر في آلية أجر المثل كونها ليست هي الطريقة المثلى في ظل وجود وسائل أخرى لتقدير بدل الإيجار والتي يمكن اعتمادها لتقدير الأجر العادل بما يتلاءم مع الظروف الاقتصادية والاجتماعية السائدة.

ورغم القدسية التي أضفاها الدستور الأردني على قرارات المحكمة الدستورية من خلال اعتبارها نهائية وملزمة لكافة السلطات، فقد اختار مجلس الأعيان مخالفة قناعات المحكمة الدستورية من خلال الإبقاء على أجر المثل، ورفض البدائل التي اقترحها مجلس النواب.

أما بخصوص قرار مجلس الأعيان الإبقاء على الامتداد القانوني لعقد الإيجار إلى ورثة المستأجر، وبغض النظر عما إذا كان لنفس المدة الواردة في مشروع القانون أو بزيادتها، فإنه قد تجاهل حقيقة ثابتة مفادها وجود مخالفة دستورية جسيمة في الحكم القانوني المعمول به حاليا، والذي يقسم الأردنيين المستأجرين وورثتهم وفقا لغايات المأجور، فيقرر لجميع الورثة في المأجور لغايات السكن امتدادا قانونيا في إشغال المأجور بعد وفاة المستأجر، في حين أنه يقصر العقارات المخصصة لغايات أخرى كالمأجور التجاري بورثة المستأجر الشرعيين أو أحدهم. ومثل هذا التقسيم ينطوي على مخالفة صريحة لأحكام المادة (6) من الدستور باعتبار أن قانون المالكين والمستأجرين قد ميّز بين الأردنيين على أساس الدين والعقيدة، حيث توسع في نطاق الورثة الذين ينتقل إليهم حق الإجارة في المأجور المخصص لغايات السكن لتشمل كافة الورثة المقيمين مع المستأجر سواء كانوا ورثة شرعيين أو غير شرعيين، في حين أنه قد حصرها فقط في الورثة الشرعيين في المأجور لأية غايات أخرى. فعلى فرض أن مستأجرا لعقار تجاري متزوج من امرأة غير مسلمة وتوفي فإن حق الإجارة لا ينتقل إلى زوجته بحكم أنها لا تعد من الورثة الشرعيين له، في حين أنها ترث منه حق الإجارة في أي مأجور مخصص لغايات السكن وذلك لمدة ثلاث سنوات.

كما فرض القانون استمرارية ورثة المستأجر الشرعيين أو أحدهم في إشغال العقارات المؤجرة لغايات تجارية على الأشخاص الطبيعيين فقط دون الاعتباريين أو المعنويين من شركات ومؤسسات تجارية بشكل ينطوي على تمييز غير مبرر بين الأردنيين.

خلاصة القول إن مجلس الأعيان قد عجز عن ممارسة مهامه التشريعية بصورة كاملة، حيث تعددت عثراته وهفواته في الدورة غير العادية المنعقدة حاليا والتي من المتوقع أن تكون آخر دورة لمجلس الأعيان الحالي الذي سيعاد تشكيله قبل بدء الدورة العادية الأولى لمجلس الأمة السابع عشر في بداية شهر تشرين الأول القادم.

*أستاذ القانون الدستوري المساعد في كلية الحقوق في الجامعة الأردنية

العرب اليوم

أضف تعليقك