تملّق بالوراثة

تملّق بالوراثة
الرابط المختصر

"يَدِلُّ بِمَعنىً واحِدٍ كُلَّ فاخِرٍ وَقَد جَمَعَ الرَحمَنُ فيكَ المَعانِيا** إِذا كَسَبَ الناسُ المَعالِيَ بِالنَدى  فَإِنَّكَ تُعطي في نَداكَ مَعالِيا”، أنشد المتنبي هذه الأبيات مادحاً كافور الإخشيدي حاكم مصر في عصره الذي ارتحل إلى كنفه بعد أن غضب من صديقه سيف الدولة في دمشق.

بعيداً عن السياق البلاغي والجمالي لشعر المتنبي، فإن الإفراط في وصف الممدوح –الإخشيدي- يبدو لافتاً للنظر ويمكن تصنيفه في خانة التملق السياسي النخبوي الذي لا يتقنه إلا المفوّهون. يتجلّى قبح المديح الوارد في أبيات المتنبي حينما يُقرأ مع أبياته التي هجا فيها ممدوحه –الإخشيدي- بأقبح الصفات بعد أن يئس من نيل ما توقعه من العطايا والمزايا لقاء مديحه المأجور، حيث ترك مصر وكافورها منشدا هذه الأبيات: “لا تَشْتَرِ العَبْدَ إلاّ وَالعَصَا مَعَهُ إنّ العَبيدَ لأنْجَاسٌ مَنَاكِيدُ** ما كُنتُ أحْسَبُني أحْيَا إلى زَمَنٍ يُسِيءُ بي فيهِ عَبْدٌ وَهْوَ مَحْمُودُ”.

عالج الراحل العظيم الكاتب الساخر أحمد رجب هذا التناقض غير الأخلاقي في موروثنا الأدبي في قصة فيلمه التلفزيوني “محاكمة علي بابا” الذي أظهر فيه تساؤل طالب في المرحلة الإعدادية عن المبادئ والأخلاق التي تسمح لشاعر أن يفترش الأرض بالقرب من باب الحاكم وجيبه الأيمن منتفخ بقصيدة أو أكثر يثني فيها عليه ثناءه على الله ليحظى بالمال والوصال، ثم إذا لم يعره الحاكم انتباهاً تولى مُدبِراً وأخرج من جيبه الأيسر قصيدة هجاء معدة مسبقاً ينعت فيها من منعه خيره وفضّل عليه غيره؛ بأبشع الأوصاف والألفاظ.

ظاهرة التحول والتبدل في الرأي والنقد التي يرصدها الكثيرون خصوصاً في مجال العمل العام الذي يتبنى أصحاب الياقات البيضاء فيه لغة القطاع الذي ينتمون إليه ثم سرعان ما ينقلبوا عليه إذا لفظهم وأبدلهم بغيرهم أو منعهم بعض ما كان يمنحهم إياه؛ تعد ممارسةً متوارثةً أكثر منها ظاهرةً مكتسبةً وذلك نظراً لما تعج به كتب الأدب والسير التي من مضامينها تشكّل الوجدان الثقافي والقيمي لأجيال متلاحقة من الطلبة في هذه المنطقة من العالم.

تدريس الأدب بمتناقضاته والتركيز فيه على العروض أو الدلالات البلاغية لمحتواه دون تحليل سياقه ومدى انسجامه مع الأخلاقيات والمبادئ التي تتلمسها السجية دون تكلف؛ يعد وبحق شرعنةً للعديد من المسلكيات المشينة التي أتاها شعراء وأدباء وعلماء ممن يتحدث جانب من نتاجهم الأدبي عن نفاقهم وتملقهم وعدم ثباتهم على مبدأ بل حتى عدم احترامهم لإبداعاتهم التي يتاجرون فيها فيجعلونها بلسماً لمن يُدَرهِم وعلقماً على من يُحجِم.

درسنا شعر المتنبي وأبي تمام وغيرهما وعلمونا استخلاص بحور الشعر التي نسجت عليها أبياتهم وتحليل الصور البلاغية لعباراتهم وكلماتهم، إلا أن أحداً لم يفسر لنا كيف نقرأ البيت ونقيضه للشاعر نفسه وفي الديوان عينه، الشفافية مصطلح لا يقتصر على الحوكمة الرشيدة ولا على الديمقراطية والممارسة السياسية، وإنما يمتد ليشمل طرق ومنهجيات تدريس الأدب والتاريخ والدين لكي لا يترك في نفوس الطلبة اليافعين تساؤلات قد تكون نتيجة الإحجام عن مناقشتها وتشريحها؛ قبولها بوصفها مسلّمات سرعان ما تنقلب لممارسات لا يستشعر من يقوم بها الحرج لأن “أبطال” كتب التاريخ الأدبي والديني هم من ابتدعها ووضعها.

المكاشفة والمراجعة النقدية البناءة للتاريخ بمختلف تصنيفاته هي أول خطى الإصلاح الفكري والتعليمي وهي تشكل الرافعة التي تحمل نبراس الدولة المدنية في مواجهة السطوة الثيوقراطية والاعتدال وقبول الآخر في مواجهة التطرف والانعزال.

فلنعلّم الطلبة أن المتنبي وغيره من شعراء العرب وعلمائهم ومؤرخيهم... مبدعون ومتميزون لكن بعضهم منافقون متملقون وتجار يمدحون من يدفع ويذمون من يمنع.

 

مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.

أضف تعليقك