تلخيص باريز وأخواتها

تلخيص باريز وأخواتها

 

تصيبك ردود فعل الجمهور العربي-وعموم مثقفيه تقريباً- على الجرائم الإرهابية في أوروبا بالإحباط، خصوصاً إذا ما أضفت عليها مواقف العرب المقيمين في أوروبا من هذه الجرائم، ومن مجمل العلاقة مع المجتمعات التي يعيشون فيها منذ ثلاثة أجيال.

 

ردود الفعل ما تزال كأنها تأتي من حقبة غزو نابليون للشرق، ومن أجواء الصدمة الحضارية التي أحدثها ذلك الغزو. ما تزال محكومة لثنائية من تلك الثنائيات العديدة والعديدة جداً، التي تحكم استجاباتنا للمؤثرات، وكأن الجهاز العصبي لمنطقتنا مجرد قوس عصبي بسيط، استجابة أو عدم استجابة، من الخلية الحسية التي تلتقط المؤثر إلى العضلات التي تستجيب مباشرة، من دون تحليل للمعطيات ومن دون تدخل للدماغ.

 

ما الذي حصل في باريس بالضبط؟ هل هو ثأر كامل المشروعية يقتص من تاريخ إجرامي استعماري لعدو أزلي، أم هجوم دموي نفذه ممثلون لحضارة همجية واستهدف أبناء حضارة تمثل أرقى معايير الإنسانية؟ أم أن الذي حصل هو تكرار جديد للصدمات الممتدة ما بين تلخيص باريز وجولات الدعاة الذين وجدوا الإسلام ولم يجدوا المسلمين، وهي الصدمات التي تتمثّل في قراءة لأوروبا لا تلحظ الأوروبيين أنفسهم بقدر ما تلحظ انعكاس أفكارنا عليهم؟

 

أبيض أو أسود، أوروبا بمجملها ومن دون فروق، ككتلة واحدة، إما أنها الحضارة الكاملة أو أنها العدو المطلق. ما تزال الصدمة نفسها تتكرر، وما يزال الرفض التام أو الانبهار الزؤام هما الخياران المفضلان. لا نلحظ في التيار العام أية آثار حقيقية لأعمال مر عليها قرنان من الزمان، وأخرى مر عليها عقود، وبعضها معاصر.

 

في المعسكر المنبهر بأوروبا، بليبرالييه وأنصاف مثقفيه لا تجد صدى للانتقادات العميقة التي قدمها مفكرون عرب للنظرة الأوروبية للعالم، فليس هناك من يلحظ محدودية المركزوية الأوروبية مثلما فعل سمير أمين، وليس هناك من يصمم -مثل محمد أركون- على استخدام الأدوات والمناهج الأكاديمية التي استخدمها الأوروبيون في تحليل حضارتهم لكن لتحليل حضارتنا وتحليل علاقتها مع الغرب، وليس هناك حتى من ينقد الاستشراق بطريقة إدوارد سعيد. هناك بالطبع مئات وآلاف الأعمال النقدية والسجالية الحديثة والتي تقدم ذلك، لكنها للأسف لا تجد طريقها إلى التيار العام في هذا المعسكر الذي ما يزال يكرر دعوات إلغاء الذات والانصهار في الآخر للتخلص من التخلف والتأخر عن الركب، وللحاق بالآخر الحضاري، تماماً وكأننا لم نبارح القرن الثامن عشر! أما تجارب التطور البشري الأخرى، كجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية وبعض تجارب أفريقيا فقد تكون بانتظار معجزة حتى نستطيع ملاحظة وجودها.

 

المعسكر الآخر المعادي لأوروبا يقدم بطريقة مضحكة تصوراً لثأر تاريخي ضحل، لا يمتلك حتى الحد الأدنى من الإبداع والقصدية الثأرية وما يتبعها من قوى دافعة تولد في العادة زخماً قوياً نحو التطور. صورته المثلى هذا المعسكر، هي داعش، ولكن من يعيش بين عرب أوروبا يكتشف أن المسألة أوسع بكثير! النكتة المريرة هنا أن اليسار يكاد في عمومه يشارك الأصوليين في رؤيتهم هذه!

 

يكاد الجميع يكرر الشعار المعلّب ذاته عن ضرورة الاستفادة من إيجابيات الغرب، وخصوصاً أوروبا، وتجنب سلبياته، ولكن هيهات منا التطبيق! هناك الكثير من الجهود المبذولة من قبل باحثين وكتاب ومفكرين وسياسيين تحاول قراءة أوروبا قراءة نقدية وتحاول استخلاص الدروس وتقديم تصورات لما يمكن تطبيقه منها ضمن سياق يلحظ التطور العالمي ككل، ويرى أوروبا والغرب ضمن سيرورة بشرية كلية فيها تجارب شعوب ومناطق أخرى، تخضع جميعها لتوازن ديناميكي مليء بالحيوية والتفاعل، على عكس الفهم الاستاتيكي الأسهل للتداول لدى الأذهان المتحجرة والعقول الكسولة.

 

المشكلة هنا بالذات أن جهود هؤلاء الباحثين والكتاب والسياسيين ما تزال غير مرئية لدى الأذهان المتحجرة والعقول الكسولة، تماماً مثل محاولة شرح العالم ثلاثي الأبعاد لكائن يعيش في بعد واحد!

 

باريس التي لخصها عربي مصري يوماً ما مستمرة في كونها متاهة، هي وأخواتها من مدن القارة الأوروبية، حتى بالنسبة للعرب الساكنين في ضواحيها والذين يمكنهم رؤية برج إيفل عن بعد، لكنهم ما زالوا مثل أقرانهم البعيدين عنها غير قادرين على رؤيتها بأبعاد ثلاثة!

 

علاء الفزاع: كاتب أردني مقيم في السويد

أضف تعليقك