تلحين القرآن

تلحين القرآن
الرابط المختصر

تنبع المواقف المتشددة إزاء تلحين سور قرآنية من طغيان الوهابية في المجتمعات الإسلامية، إذ ينبغي التذكير بأن رجال الدين السعوديين- وعلى رأسهم ابن باز- يحرّمون إلى اليوم قراءة القرآن بالمقامات، التي قدّمها لنا مشاهير المقرئين من أمثال مصطفى إسماعيل وعبد الباسط عبد الصمد، والذين ورثوها منذ أزيد عن ألف عام.

لا يمكن مناقشة نماذج ملحنة من آيات المصحف، ومنها غناء الفاتحة للموسيقي التركي عمر فاروق من دون الخوض في تاريخ فن التجويد الذي انطلق في القرن الثالث الهجري على يد أبي عبيد الخراساني صاحب "كتاب القراءات"، وإن أعاده بعضهم إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي.

ورغم القول المتداول إن التجويد نشأ لكثرة الخطأ (ما يسميه العرب اللحن) بسبب دخول الأعاجم الإسلام، إلاّ انه يُلحظ اهتمام الشعوب غير العربية بتلاوة القرآن بأساليب مختلفة، واحتفائها الخاص عبر ترتيله بالمقامات الموسيقية، وربما تُردّ هذه الظاهرة إلى إسلام أهل الحواضر في فارس وخراسان والمغرب العربي والأندلس ممن يمتلكون تراثاً عريقاً في الغناء والطرب، خلافاً للعرب الذين يسكنون البادية.

تناقلَ القراء جيلاً إثر جيل هذه القراءات، التي ساهمت في سهولة انتشار الإسلام وتعلّم القرآن لدى أمم كثيرة لا يزال أغلب أبنائها يجهلون اللغة العربية إلى يومنا هذا، وقد تعددت الاجتهادات الفقهية حول حدود التجويد والتلحين، لكن المرويات التاريخية لم تشر إلى تحريم قطعي لها، بدليل امتدادها إلى لحظتنا المعاصرة، وما شهدته من تطوير توثقه تسجيلات عدد من المقرئين، ومنهم: الحصري، ومحمد رفعت، وفاطمة عبد الجليل.

ولم يكن الارتباط بين أهل الطرب ورجال الدين المسلمين اعتباطياً، فالتصوف الذي شاع في أغلب العواصم الإسلامية أسهم في تأسيس تراث فنّي يعتني –أساساً- بترنيم الأذكار والأناشيد، وأبدع إلى جواره رقصات المولوية والسماح وغيرهما، وخرّجت زوايا الذكْر أشهر المطربين على مرّ العصور.

لم يقترب المطربون من سور القرآن، وإن تمنى كثيرون تلحينها، ومن أبرزهم الموسيقار محمد عبد الوهاب الذي أَسْمعَ بعض أصحابه المقربين لحْنه لآيات من سورة الرحمن في إحدى ليالي رمضان، لكنه لم يذهب أبعد في مغامرته بسبب معارضة الأزهر.

وصدرت أيضاً فتوى تُهدر دم المطرب الكويتي عبد الله الرويشد لغنائه الفاتحة في أحد المجالس الخاصة، وطويت صفحة الموضوع رغم أن مصادر عدّة تشير إلى تكرار المحاولات، في هذا الصدد، جرى بعضها في جلسات الطرب الشهيرة التي تحتضنها المدينة المنوّرة عبر التاريخ.

قبول فكرة تلحين القرآن تحددها درجة تسامح المجتمعات حيالها، وما يثبت ذلك إعجاب الجماهير التركية بفنان بلادهم عمر فاروق تكبيلك، حيث لم يتلق اعتراضاً على تلحينه الفاتحة، وكذلك الأمر بالنسبة للفرقة الأندونيسية التي لحنت آيات قرآنية، فقد استهجن الإعلام الأندونيسي حينها تحريض مواقع سعودية –تحديداً- ضد الحادثة.

المتتبع لهذه الأعمال يكتشف سريعاً أن أداء من قدمّها يتسم بالاحترام والتبجيل للآيات المغناة، وأنها تعبير عن ذائقة تقدّر الموسيقى الكامنة في النص.

لا أتوقع أن تتوقف مشاريع تلحين القرآن، ولن تحمل المقطوعات الملحّنة أي إساءة كذلك، بينما فقهاء السعودية هم من يتقصد الإساءة إلى الإسلام، وآخرها التقارير المنشورة اليوم عن تدمير 95% من المواقع التاريخية في مكة المكرمة حيث أستبدل بيت خديجة، زوجة النبي محمد، بممر يؤدي إلى دورات مياه، خشية أن يسبب وجودها قيام أفعال تعدّ شِرْكاً، في الوقت الذي تُنفق فيه الملايين لترميم بيوت آل سعود القديمة في الدرعية.

·        محمود منير: كاتب وصحافي. محرر "تكوين" في عمان نت.

 

أضف تعليقك