تفكيك الخطاب الداعشي: "مظلومية السنة"

تفكيك الخطاب الداعشي: "مظلومية السنة"
الرابط المختصر

 

 

مثل ثقب أسود يبتلع كل ما حوله وكل ما يقاربه، تبدو دولة الإرهاب في العراق والشام، داعش. تعمل ماكنتها التجنيدية على مدار الساعة، طيلة أيام الأسبوع، من دون توقف. أفرادها الاختصاصيون بالترويج أفذاذ بالفعل، يطاردون كل الاحتمالات والإمكانيات، ويطرقون كل الأبواب غير الموصدة جيداً، ويقدمون لكل ساحة ما يناسبها، ما ينعكس على الأرض بمعدلات تجنيد تفوق بكثير أية معدلات تجنيد إجباري في أي دولة من دول المنطقة. كل التقديرات المتفائلة التي صدرت بعيد منتصف 2014 وتحدثت عن تباطؤ معدلات تجنيد داعش للمزيد من المقاتلين تبخرت اليوم أمام الأرقام المذهلة التي نواجهها.

 

أحدث التقديرات تشير إلى نمو متصاعد لأعداد المقاتلين. تقرير مجلس الأمن في أيار حول ظاهرة الجهاديين الملتحقين بداعش قدّر النمو بنسبة 70% خلال 9 أشهر فقط. العدد الإجمالي مختلف عليه، فالتقديرات الغربية تقول أن عدد مقاتلي داعش يتراوح ما بين 25-30 ألف مقاتل، فيما قدَرهم المرصد السوري لحقوق الإنسان بنحو ـ50 ألفاً، بينما يقول مسؤولون روس أن تعداد مقاتليه هو 70 ألفاً. ويصل مسؤول عسكري في كردستان العراق بالعدد إلى 200 ألف جهادي يحاربون مع التنظيم في سوريا والعراق. ورغم الاختلاف على العدد إلاَ أن النتيجة واضحة: التجنيد ناجح جداً ومعدل الانضمام للتنظيم مرتفع للغاية.

 

كيف وصلت دولة الخلافة المزعومة إلى هذه المعدلات في الاستقطاب والتجنيد التي تكاد تكون تاريخية؟ في مواجهة ظاهرة مركّبة مثل تنظيم داعش الإرهابي، الذي تحول إلى نواة دولة لا يمكن وضع اليد على كلمة مفتاحية أو إجابة واحدة، بل يمكن القول إن قدرتهم على استقطاب القوى البشرية والمالية والإعلامية والإدارية وغير ذلك إنما تتم على شكل جداول صغيرة متناثرة تتجمع تدريجياً لتتحول إلى نهر متدفق. في أوروبا، على سبيل المثال، كان دعاة التنظيمات السلفية في البداية يعتمدون معاناة الشعب الفلسطيني مدخلاً، قبل أن يتحولوا قبيل ظهور داعش إلى استغلال مأساة الشعب السوري والقمع الذي تعرض له، ثم أصبحت المسألة -مع ترسّخ سلطة أنصار البغدادي على مساحات واسعة من الأرض- استقطاباً ودعوة للانتقال إلى "دار الخلافة".

 

في بلاد المشرق العربي، وبعض مناطق المغرب العربي، يقوم جزء مهم من خطاب داعش على بناء صورة لمظلومية مفترضة للسنة، حيث يقوم أولاً بإبراز مفهوم الأمة، ثم إخراج الشيعة خارج هذه الأمة، ليس فقط بتكفيرهم، إنما بوضعهم في مرتبة العدو المباشر المستهدف، وذلك بهدف الحصول على ولاء العصبية السنية، ضمن مفهوم ابن خلدون للعصبية. ويلتقط داعش وقائع؛ بعضها حقيقي وبعضها مبالغ فيه ومضخّم، يضعها في غير سياقها ويوظفها ضمن سردية تظهر السنة مستهدفين من كل العالم، ويظهر نفسه حامي حمى السنة وملجأهم، وينجح هكذا في استقطاب الشباب المتحمس. ويشارك في هذا الجهد عشرات آلاف الدعاة والأئمة والإعلاميين والنشطاء والمواطنين العاديين، حتى من دون أن يعلموا الغاية من جهدهم. فأجواء الاستقطاب الحادة ودعوات الثأر وارتفاع منسوب التعصب للمذهب السني وتراكمات التعصب عبر عقود تسهّل كلها مهمة خبراء داعش الاختصاصيين في التجنيد والاستقطاب الذين يقضون وقتهم على تويتر وفيسبوك ويوتيوب وغيرها. هذه الأجواء تمّكن خبراء التجنيد عبر الشبكة وعلى الأرض رصد الشباب الأكثر تحمساً وتطرفاً، ثم يقومون بإنشاء اتصال معهم، ثم ينجحون في إقناع نسبة كبيرة منهم في الانتقال إلى سوريا والالتحاق بداعش، ضمن مشروع "الأمة" التي لم تعد تضم إلا السنة. وفي مراحل متقدمة تُستثنى فئات وفئات من السنة من تعريف الأمة، لتنتهي المسألة باعتبار كل من يعيش خارج "دولة الخلافة" كافر مباح دمه ما لم يكن من "المجاهدين”.

 

في الممارسة العملية يقوم نشطاء الدعاية والترويج، في هذا التنظيم الخطير، بالتقاط إساءات أئمة ورجال دين شيعة للصحابة، ويعيدون نشرها على شكل فيديوهات مع تعليقات بالغة الخبث والدهاء، فيلتقطها متحمسون ومتعصبون وأشخاص عاديون يتحركون بدافع الغيرة على دينهم ومذهبهم السني، ويبدأ نشرها على نطاق واسع، بل ويبادر بعضهم بالبحث عن فيديوهات مماثلة ونشرها، من غير أن ينتبه ناشروها إلى كون رجال الدين الشيعة ممن يسيؤون للصحابة مجرد أدوات في خدمة عملية تجنيد مقابلة لصالح ميليشيات شيعية وجهات سياسية تستفيد هي كذلك من التحشيد المذهبي في أوساط الشيعة، ومن دون أن ينتبهوا إلى أن خبراء التجنيد في الميليشيات الشيعية يعتمدون على فيديوهات مقابلة يقوم بها أئمة ورجال دين سنة بالإساءة إلى الشيعة ووصفهم بأنهم أبناء متعة وما شابه. وتكون محصّلة التحشيد المتبادل هي تصاعد أكبر في التوتر المذهبي والشعور بالإساءات والرغبة المتبادلة في الانتقام، وبالتالي تنتج إساءات أكثر، فتوتر أكبر، وهكذا دواليك، وصولاً إلى استقطاب بالغ الحدة يصب لصالح المتطرفين من الطرفين.

 

هذا السيناريو ليس بعيداً عما كانت تمارسه قنوات فضائية يدعي بعضها تمثيل السنة، ويدعي بعضها تمثيل الشيعة، ولم تكن تجارتهم لتربح لولا افتعال بعض الصدامات الإعلامية، ثم السماح للمشاهدين بإرسال رسالة نصية، مدفوعة بالطبع، تحمل إساءات وشتائم للطرف الآخر. ومع اشتداد الصدام الإعلامي كانت ترتفع عائدات تلك القنوات من تلك الرسائل التي يرسلها آلاف الأشخاص العاديين الذين وقعوا في الفخ، لكنهم يخسرون نقودهم فيما لعبة داعش والميليشيات الشيعية تتضمن خسارة الأرواح.

 

وينبغي التذكير أن داعش في بداياته، عندما كان قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين وصولاً إلى الدولة الإسلامية في العراق، لم يكن الفصيل الأكبر ضمن فصائل "المقاومة" العراقية، لكنه استخدم بذكاء تكتيك إشعال النار المذهبية، فركّز جهوده ليس على استهداف الميليشيات الشيعية الناشئة حديثاً، حينها، والتي لم يحاول ردعها عن ممارساتها الميليشياوية، وعلى استهداف رموز شيعية غير عسكرية، ففجّر مساجد ومراقد وحسينيات، مستميتاً على استجلاب رد فعل أوسع وأقوى من الأطراف الشيعية، وعندما ردّت تلك الأطراف كان يستخدم الرد في سرديته القائمة على مظلومية السنة ودعوات الثأر، لينجح تدريجياً في تحويل المقاومة العراقية للاحتلال الأمريكي إلى حرب أهلية بين السنة والشيعة، وليصبح هو التيار الأقوى على الأرض. وينبغي الانتباه هنا إلى أن استهداف داعش لمساجد الشيعة في السعودية والكويت يهدف إلى إثارة ردود فعل تزيد من شعبيته وقوة حجته بين سنة الكويت والسعودية وعموم الخليج العربي.

 

ركنٌ آخرٌ يعتمد عليه داعش في سردية المظلومية السنية يتمثل بتوظيف حالات يتعرض فيها مسلمون للظلم، أو تضخيم حالات أخرى وإخراجها من سياقها. فمن قصة الروهينجا في بورما، إلى معاناة المسلمين في أفريقيا الوسطى، إلى أية حالة يمكن استخدامها. يتم هنا استخدام صور وفيديوهات حقيقية لجرائم تعرض لها مسلمون، أو استخدام صور لكوارث طبيعية والقول أن الضحايا هم مسلمون تعرضوا للقتل، أو أية صور لضحايا لا علاقة لهم بالإسلام والقول إنهم مسلمون، مستثمراً وجود جمهور عريض مستعد لتقبل الصور والفيديوهات من دون تمحيص. يقوم دعاة التعصب، مثلاً، بنشر صور لكهنة بوذيين يتعرضون للتنكيل من قبل الشرطة مع تعليق مكتوب على الصورة يدعي بأنهم مسلمون! المهم هنا هو إخراج الصراعات من سياقها، والقول إنها استهداف للمسلمين، فعلى سبيل المثال يتجاهل ناقلو هذه الصور أن الصراع في بورما (ميانمار) هو بين دكتاتورية ومجتمع كامل يتم فيه اضطهاد كل الأقليات، من دون أن نقلل بالطبع من الاضطهاد التاريخي للأقلية المسلمة، التي يتشارك في ظلمها البورميون من ناحية، وإخوانها في الإسلام في بنغلادش على الجانب الآخر من الحدود من ناحية أخرى. وفي حالة أفريقيا الوسطى يتجاهل دعاة التعصب أن القصة عبارة عن حلقة من سلسلة صراعات عرقية تعصف بوسط أفريقيا منذ عقود، وتشمل الجميع بلا استناء وليس فقط المسلمين، وفي أفريقيا الوسطى بالذات يوجد أقليات عدة تتعرض للتنكيل الآن، وفي الكونغو المجاورة تجري فظائع بحق أقليات ليست مسلمة، وفي رواندا وبوروندي الواقعتين، في المنطقة نفسها، جرت أسوأ  مجازر البشرية، وغير بعيد تقوم مليشيا بوكو حرام المشابهة لداعش بجرائم وفظائع عديدة بحق طوائف أخرى. لا يمكن التقليل بالطبع من معاناة المسلمين في أفريقيا الوسطى، لكن المسألة تأتي في سياق مختلف كلياً لا علاقة له باستهداف الإسلام كما تزعم ماكنة التجنيد الجهادي، ويدعي من يخدمون أجندتها عن قصد أو عن جهل.

 

حتى مظلومية الفلسطينيين تُستخدم، لكن ليس بالقوة نفسها مؤخراً. مهم أن نشير إلى أن داعش لا يقول أبداً كيف سينصر مسلمي الروهينجا، أو أفريقيا الوسطى، أو فلسطين، وكيف سيرفع المظلمة عنهم! أنت غاضب مما يجري هناك وفي كل مكان، فتعال وقاتل معنا في سوريا والعراق! واللافت أن معظم من يلتحقون لا يسائلون أنفسهم عن المردود الذي يقدمونه لهذه الفئات، رغم أنهم التحقوا بداعش بداعي الانتصار لها!

 

أكاديمياً؛ لا يوجد الكثير من الدراسات حول أهمية سردية "مظلومية السنة" في خطاب داعش التجنيدي، لكن يمكن رصد محوريتها عبر مراقبة ما تنشره الحسابات المقربة من التنظيم، وعبر سماع ما يقوله بعض من يلتحقون بداعش. بالطبع يضاف إلى ذلك أسباب بالغة الأهمية، مثل انسداد أفق التغيير في معظم بلدان الربيع العربي، وفشل بعض التجارب الديموقراطية، والعنف المتصاعد في سوريا والعراق وليبيا، وانكسار أحلام بناء دولة مثالية لدى مئات آلاف الشباب الرافضين للواقع المتردي، والشعور الديني القوي الذي يتم استغلاله بشكل ذكي، وغير ذلك. وتبقى الثيمة القوية، التي تشكل جزءاً مهماً من جهود داعش التجنيدية، هي إبراز داعش حامياً للسنة في عالم يستهدفهم.

 

ينبغي أن يتحرك كل من له مصلحة في محاصرة داعش وإضعافها نحو توقف الخطاب التحريضي ضد الشيعة في بعض مساجد السنة ومن قبل بعض أئمتهم، وخصوصاً المعروفين إعلامياً الذين يتابعهم ملايين عبر الشاشات وعبر تويتر وفيسبوك، وبذل جهد مماثل مع المراجع الشيعية للقيام بخطوات مماثلة. هذه خطوات عاجلة، على أمل إيقاف النار المشتعلة، وأن تتمكن بقايا القوى المدنية العربية من لملمة أنفسها والعودة للنضال من أجل الديموقراطية والإصلاح والتنمية، التي تشكل الحل بعيد المدى للتطرف والإرهاب.

 

 

علاء الفزاع: كاتب أردني مقيم في السويد

 

أضف تعليقك