تعديل القوانين على هدي قرارات المحكمة الدستورية
رغم مرور فترة زمنية قصيرة على إنشائها، إلا أن المحكمة الدستورية قد أثبتت علو كعبها وتميزها في التعاطي مع المهام الدستورية الموكولة إليها والمتمثلة في الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة النافذة وتفسير نصوص الدستور، لتستحق بذلك أن تكون ذروة التعديلات الأخيرة التي طرأت على الدستور الأردني عام 2011. فقد أصدرت المحكمة الدستورية حتى تاريخه ثلاثة قرارات تفسيرية لنصوص الدستور، وقرارين بعدم دستورية نصوص قانونية سارية المفعول حيث تضمن القرار الأول عدم دستورية المادة (5/أ) من قانون المالكين والمستأجرين، في حين تعلق القرار الثاني بعدم دستورية المادة (51) من قانون التحكيم الأردني رقم (31) لعام 2001.
إن الأثر المترتب على القرارين الصادرين بعدم الدستورية يتمثل في اعتبار تلك النصوص القانونية باطلة وجديرة بالإلغاء من تاريخ صدور الحكم وذلك استنادا لأحكام الفقرة (ج) من المادة (15) من قانون المحكمة الدستورية رقم (15) لسنة 2012 التي تقضي بأنه إذا قررت المحكمة عدم دستورية قانون أو نظام نافذ، فإنه يعتبر باطلا من تاريخ صدور الحكم ما لم يحدد الحكم تاريخا آخر لنفاذه، فيعتبر القانون أو النظام باطلا من التاريخ المحدد في الحكم.
إلا أن التساؤل الأبرز الذي يثور حول القرارات الصادرة بعدم الدستورية يتمثل في الخطوات اللاحقة التي يجب القيام بها للتعامل مع تلك الأحكام القضائية. رغم إعلان عدم دستورية النص القانوني الذي يعتبر القرار الصادر حول أجر المثل قطعيا لا يقبل المراجعة بأي طريق من طرق الطعن، إلا أن المحاكم الأردنية لا تزال تقيد دعاوى قضائية لتقدير أجر المثل في ظل وجود فراغ تشريعي حول آلية الطعن في الأحكام القضائية الصادرة فيها.
وكذلك الحالة بالنسبة للمادة (51) من قانون التحكيم التي قررت المحكمة الدستورية عدم دستوريتها كونها تحرم المحكوم عليه من الطعن في قرار محكمة الاستئناف الصادر بتأييد حكم التحكيم وتعتبر قرارها في تلك الحالة قطعيا، في حين أنها تمنح المحكوم له حق الطعن في القرار الصادر عن محكمة الاستئناف إذا قضت المحكمة ببطلان حكم التحكيم. فرغم صدور ذلك القرار، إلا أن قضايا بطلان حكم التحكيم لا تزال تسجل وبشكل يومي لدى محكمة الاستئناف وذلك من دون معالجة الأثر القضائي المترتب على الحكم الصادر بعدم الدستورية.
إن القاسم المشترك بين القرارين الصادرين عن المحكمة الدستورية يتمثل في أنهما قد قررا عدم دستورية نصوص قانونية إجرائية تتعلق بأصول المحاكمات والإجراءات القضائية أمام المحاكم، ولم تمس بقواعد موضوعية ذات صلة جوهرية بمراكز قانونية للأفراد. لذا فقد يكون الأثر القضائي المترتب على تلك القرارات مباشر يتمثل في تطبيق القواعد العامة في التقاضي على درجتين وفق أحكام قانون أصول المحاكمات المدنية فيما يتعلق بالطعن بالأحكام القضائية. ففي كلا القرارين قضت المحكمة الدستورية بعدم دستورية نصوص قانونية تحرم المتقاضين من الطعن بالأحكام القضائية الصادرة إلى جهة قضائية أعلى، بالتالي فقد يكون الحل الأبسط قانونيا – كما يراه بعضهم – هو أن يسترد كل طرف في الدعوى حقه بأن يطعن بالحكم الصادر بأجر المثل وتأييد قرار التحكيم وذلك من دون الحاجة لاتخاذ أي إجراء تشريعي آخر. فأصحاب هذا الرأي يستندون إلى فكرة أن الحق في التقاضي على درجتين هو مبدأ دستوري أصيل قد أحيل أمر تنظيمه للقواعد القانونية التي يجب أن لا تنكره على الأفراد، وأن الخصوم في أية دعوى قضائية يجب أن لا يتمايزوا بينهم في نطاق القواعد الإجرائية والموضوعية التي تحكم الخصومة القضائية، وفي مجال ضمانات حق الدفاع التي يكفلها الدستور، وفي اقتضاء الحقوق وطرق الطعن في الأحكام القضائية التي تقررها.
لذا يرى بعضهم أنه لا حاجة لتعديل القوانين التي قررت المحكمة الدستورية عدم دستورية بعض نصوصها بحجة أن أحكامها إجرائية بطبيعتها، وأن المبادئ الأساسية في التقاضي على درجتين تكون أولى بالتطبيق من تعديل النصوص القانونية. فالمحاكم الأردنية مستمرة في تسجيل قضايا تحديد أجر المثل استنادا إلى قانون المالكين والمستأجرين من دون الحاجة لتعديله مع تقرير حق الطعن بالحكم القضائي الصادر حول أجر المثل إلى محكمة الاستئناف. وكذلك الحالة بالنسبة لقانون التحكيم، فدعاوى بطلان قرارات التحكيم ما زالت تقدم لمحكمة الاستئناف من دون الحاجة لتعديل أحكام المادة (51) منه مع تقرير الحق لطرفي الدعوى في الطعن بالحكم القضائي الصادر عنها بغض النظر عن منطوقه.
إن تطبيق القواعد الإجرائية العامة في التقاضي على درجتين أمام المحاكم النظامية قد أسعفنا هذه المرة في التعاطي مع قرارات المحكمة الدستورية بعدم دستورية النصوص القانونية الإجرائية. إلا أن هذا الأمر يجب أن لا يكون مبررا لعدم إجراء معالجة تشريعية للنصوص القانونية التي تقرر عدم دستوريتها وذلك من قبل مجلس النواب الذي يجب أن يتدخل لإجراء المقتضى التشريعي وتعديل القوانين ذات الصلة على هدي ما جاء في قرارات المحكمة الدستورية، خاصة وأن المحكمة قد أشارت في قرارها الصادر حول أجر المثل إلى أن تلك الطريقة قد لا تكون المثلى لتقدير الأجر العادل، وأن المشرع مدعو إلى اعتماد طرق أخرى لذلك حسب ما يراه متلائما مع الظروف الاقتصادية والاجتماعية السائدة.
وحول الطعن بالأحكام القضائية المتعلقة بأجر المثل استنادا لقانون المالكين والمستأجرين وبطلان حكم التحكيم استنادا لقانون التحكيم، فقد يرتأي المشرع الأردني إفراد أحكام إجرائية خاصة بذلك كتحديد فترة زمنية معينة للطعن وأي شروط إجرائية أخرى كنظر القضية تدقيقا أو مرافعة، وهذا ما يبرر ضرورة تعديل أحكام القوانين التي تقرر عدم دستورية بعض نصوصها وعدم الاكتفاء بالإحالة إلى القواعد العامة في التقاضي على درجتين.
إن مجلس النواب مدعو إلى أن يواكب الأحكام القضائية الصادرة عن المحكمة الدستورية في الفصل في الدفوع التي يثيرها الأفراد بعدم دستورية القوانين النافذة، وأن يعمل على ترجمة تلك الأحكام القضائية تشريعيا في نصوص القوانين. فالمادة (59) من الدستور الأردني قد أضفت على الأحكام القضائية الصادرة عن المحكمة الدستورية صفة النهائية واعتبرتها ملزمة لجميع السلطات ومن ضمنها مجلس النواب الذي لا يملك إلا أن ينصاع تشريعيا لاجتهاد القضاء الدستوري الأردني، وأن يبادر إلى ممارسة دوره التشريعي في معالجة الخلل الذي يعتري النصوص القانونية التي يتقرر عدم دستوريتها. فهو في هذا السياق يعاني من تخبط تشريعي يتمثل في انعدام أية أولويات خاصة بعمله التشريعي. ففي الوقت الذي كان يفترض بمجلس النواب أن يبادر إلى التعاطي مع القرارات الصادرة عن المحكمة الدستورية وتعديل النصوص التي تقرر عدم دستوريتها، نجده ينشغل في إقرار قوانين لا تحمل صفة الاستعجال ولا تقدم أو تؤخر في حركة الإصلاح السياسي والتشريعي في الأردن، كقانون نقابة الأئمة والوعاظ في الأوقاف الإسلامية لسنة 2013 الذي أمضى السادة النواب وقتا طويلا في مناقشة نصوصه وأحكامه وذلك على حساب المهام التشريعية الضرورية الأخرى التي يجب أن يعطيها مجلس النواب جل اهتمامه وأولوياته.
* أستاذ القانون الدستوري المساعد في كلية الحقوق في الجامعة الأردنية
العرب اليوم