تطرف تسكت عنه الدولة
تندرج المطالبات "العابرة" التي ينشرها الإعلام الرسمي بمراقبة جمعيات المحافظة على القرآن الكريم ضمن مماحكات السلطة والإخوان المسلمين، في حين لا يلتفت أحد إلى المضامين المتطرفة التي تبثها أكثر من جمعية دينية مرخصة من قبل وزارة الثقافة غالباً!
لن أقف على شائعات تدور حول ثقافة التحريم والتكفير التي يتلقاها مئات آلاف الأطفال في عشرات الجمعيات والمراكز الإسلامية بفروعها التي تتجاوز الألوف، وقد يلمس كثيرون انتشارها المتزايد باضطراد، إنما سأعرض جملة آراء ومواقف متشددة، تهدد السلم المجتمع طبعاً، وهي منشورة على بعض مواقعها الإلكترونية.
يحتوي العدد الثاني والعشرون من مجلة "القبلة"، التي تصدرها جمعية الكتاب والسنة، مقالاً يؤكد صاحبه أن "سيادة الشعب تناقض الإيمان"، ويرفض وفق النصوص الدينية، التي طوّعها كيفما شاء، أي حكْم ديمقراطي لأنه "استحلال للمحرمات الظاهرة"، ويهاجم الكاتب الذي يكفّر جموع الخارجين عن الشرْع، من تنويريين وليبراليين وعلمانيين وغيرهم، مفاهيم المواطنة والحرية كونها تعبر عن منهجية "منحرفة".
المقال التالي في العدد ذاته يرى أن "الدولة المدنية ليست من الإسلام في شيء"، ولا يفوت نقّد كل أشكال العلمانية ومنها حزب العدالة والتنمية التركي، ودعوة المسلمين إلى الجهاد وعدم الرضوخ للدعاية المضادة التي تصوّر "جهادهم" إرهاباً، لكن الكاتب بدا مرتاحاً -وهو يمارس الدعوة والكتابة في مركز مرخص قانونياً- فأفتى بما لا يقبل الشك بأن "غير المسلم مواطن من الدرجة الثانية" امتثالاً للنص القرآني "حتى يعطوا الجزية وهم صاغرون"!
المجلة، التي تتبنى السلفية منهجاً يدعو إلى الوحدة والائتلاف، لا توفّر الطعن بجميع المذاهب الإسلامية الأخرى والأديان والأيديولوجيات المعاصرة وتكفير أتباعها، ويعتمد أغلب كتابها وهيئة تحريرها في ذلك على أدبيات ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وابن القيم الجوزية المشهورين بدعوات التكفير التي لا يسندها نص، مع التنويه بأن أعداد المجلة الثلاثة المنشورة على موقع الجمعية تتضمن مقالات لعدد من الكتّاب الذين توسم كتاباتهم بـ"الاعتدال".
يضاف إلى "القبلة" سلسلة مناهج يدرسها الملتحقون بدورات الجمعية ومخيمها الصيفي، وهي تشكل منظومة تربوية تحيّد العقل ما لم يخضع لتفسير واحد للإسلام ترسمه "أحكام الشريعة" التي وضعها رجال دين يضاعفون المحرمات يوماً بعد يومٍ!
ومهما ادعى القائمون على هذه المشاريع عدم انخراط خريجي مراكزهم في جماعات إرهابية، فإن ذلك لا ينفي ما هو أسوأ عبر تنشئة أجيال تعادي القوانين والدستور -التي تقوم عليها دولنا- وكل قيم التعددية والحرية في الحياة السياسية أو في سلوكياتنا الاجتماعية، خاصة حيال المرأة، أو في محاربتهم للفنون والثقافة.
ويحق لأي فرد أن يتساءل عن جدوى تخريج آلاف حفظة القرآن بالمواصفات، التي أوردناها، وعن ازدياد نفوذ من يسمون لاحقاً "علماء دين"، وهم لا يتمتعون بأي أهلية علمية أو معرفية أو لغوية، باستثناء حفظ الكراريس التي تدرسها هذه الجمعيات، حتى تجاوز المسجلين منهم مئة ألف في اتحاد علماء المسلمين، ومجتمعاتنا تغرق في الأميّة والخوف والانحطاط الأخلاقي.
لا تقتصر المساءلة على خطورة هذا المنهج والفكر، بل لا يعلم الكثير أن هذه الجمعيات تنال تبرعات بملايين الدولارات من الداخل والخارج، وقد نشرت وسائل الإعلام المحلية خبراً عن تقديم جمعية إسلامية واحدة 250 مليون دولارٍ من المساعدات النقدية والعينية للاجئين السوريين ما بين عامي 2011-2013، ولم تبد جهة رسمية أو شعبية احتجاجاً على ذلك.
شعارات كبرى ترفعها الحكومات في وجه الإرهاب والتطرف، بينما لا تزال تغض النظر عن ملايين الأموال، التي تجمع سنوياً، باسم جماعات وتيارات دينية، وليس هناك من رقابة دقيقة تطال هذه الأنشطة والدفوعات.
وفي الوقت الذي تقدّم الجمعيات المذكورة دعماً للأيتام والفقراء وذوي الإعاقة ورعاية لفئات اجتماعية عدة، تتراجع الدولة عن هذا الدور، والأخطر من ذلك كلّه حصول تقاسم "خفي" يُبقى السلطة بيد أصحابها، ويترك للتيارات الدينية ممارسة نفوذها في المجتمع.
محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.