تحديد الأولويات وعدم الخلط بين الحلفاء والأعداء

تحديد الأولويات وعدم الخلط بين الحلفاء والأعداء
الرابط المختصر

يروى أن قرية فلسطينية عاشت صراعاً قوياً بين سكانها حول زيارة مرتقبة للمندوب السامي.أهل القرية انقسموا إلى فئتين: الأول، وغالبيتها من الشباب المتحمس. بينما تكونت الثانية، في غالبيتها، من كبار السن والوجهاء.

الفئة الأولى، بجسمها الشاب، أصرت على ضرورة رفض استقبال المندوب السامي في القرية ومقاطعته؛ منسجمة بذلك مع موقفها الرافض لأي علاقة أو تواصل مع المندوب السامي، لما لدولته من دور في تهويد فلسطين وفتح أبواب الهجرة اليهودية إليها، وعطفا على دورها في إتفاقية "سايكس بيكو" وغيرها من الإتفاقات المناهضة لاستفلال الشعوب وحقها في تقرير مصيرها.

الفئة الثانية، نظرت إلى الزيارة من زاوية أخرى، آخذة بعين الإعتبار أن المندوب السامي صاحب تأثير كبير على مجريات الحياة في فلسطين عموماً، وبالتالي  يمكن أن تتضرر مصالح القرية وأبنائها كثيراً إذا ما تمت مقاطعة زيارته المرتقبة ورفضها؛ لذا، مالت هذه الفئة إلى التعاطي الروتيني مع الزيارة وتجنب اتخاذ مواقف "راديكالية" منها.

 واحتدم الخلاف حول الزيارة، ولم يلبث أن تحول إلى صراع ضارٍ لم يلبث أن جرّ إلى دائرته خلافات اجتماعية قديمة، غير ذات علاقة، توزع أطرافها على الجانبين، ومنها خلافات تدور حول رفض عائلة ما تزويج ابنتها من ابن عائلة أخرى تتمترس على الجانب الآخر، وخلاف عائلي آخر يتعلق بمشكلة إرث مزمنة، وغيرها من الخلافات والحساسيات، التي تفجرت دفعة واحدة، وأججت الخلاف على حول موضوع الزيارة المرتقبة للمندوب السامي للقرية.

وفي تلك اللحظات، بدا أن القضايا الرئيسية التي ابتدأ بها أبناء القرية المتصارعين حول الزيارة، مثل التأكيد على المطالبة باستقلال فلسطين وضرورة وقف الهجرة اليهودية، ستتحدد بانتصار طرف على آخر، وتمكنه من فرض رأيه عليه في كل المواضيع والخلافات السابقة.

لم ينته الموقف هنا، فقد انتقل الخلاف إلى نطاق أوسع، واتخذ شكلاً عدائياً، وبدأ أطراف الخلافات الإجتماعية السابقة يشنون هجمات على خصومهم باسم الموقف من زيارة المندوب السامي، وشهدت القرية حينها أعمالاً انتقامية غير مسبوقة مثل رمي بيوت الخصوم بالحجارة، وسرقة دجاجهم، وتوقف كل طرف عن التعامل تجارياً مع الطرف الآخر، وهكذا..

وزادت الأمور سوءاً مع اقتراب موعد الزيارة المرتقبة، التي أصر رئيس البلدية ووجهاء القرية إلى التعاطي معها بايجابية واستقبال المندوب السامي، ما دفع الفئة الأولى، وغالبيتها من الشباب، إلى تصعيد حملتهم داعين لمنع التعاطي مع الزيارة ولو بالعنف، ووصل الأمر بهم إلى حد الوعيد وتهديد كل من يسهم في الإستقبال بالانتقام. وهو ما زاد من حالة التوتر مع إقتراب اليوم المحدد لتلك الزيارة التي شغلت القرية.

و قبل  أيام من  الموعود المحدد للزيارة ، مرّ موكب المندوب السامي عبر الشارع الرئيس القريب من بلدتهم، دون أن يفكر بمجرد التوقف بها.

هذه القصة، التي أذكر أنها كانت موضوعاً لفيلم فلسطيني، تمثل كثيراً واقعنا كفلسطينين وعرب، حيث نفشل دائماً في أمرين هامين: الأول، تحديد أولوياتنا الوطنية العامة والخاصة والاتفاق الجماعي ومحاولة الإجماع عليها. والثاني، ضرورة تحديد الحلفاء والأعداء، وعدم الخلط بينهما. إذ غالباً ما نقوم بحرق جسورنا مع الحلفاء أو الحلفاء المتوقعين في ساعة غضب، وننسى أن الأمور التي تجمعنا بهم أكثر بكثير من تلك التي تفرقنا.

من المفترض أن الإختلاف أمر طبيعي ومقبول في أي مجتمع، وخاصة تلك المجتمعات التي تمر في حالات انتقالية كما هو حال مجتمعاتنا. ولكن الخطأ، إن لم نقل الخطيئة، هو في تحويل الاختلاف الى خلاف، ثم إلى صراع داخلي محتدم، ثم إلى موجات من التخوين (وربما التكفير!)، وفتح الباب أمام موجات الإرهاب الفكري التي يتضح أنها ليست سلوكاً مقصوراً على الجماعات الدينية المتطرفة، بل وتمارسها جماعات كاملة تدعي بالعلمانية والليبرالية..

خطيئتنا أننا في الحقيقة، وعلى خلاف ما ندعي، نتمسك برفض الحوار والإصرار على قدسية الموقف الخاص، دون مناقشة موقف الطرف المقابل وفهمه ومعرفته، ودون التأكد من الحقائق، وفحص طبيعة الخلاف نفسه إن كان جذرياً وأساسياً أم ثانوي سطحي. ونتورط بالتالي في مواقف، ضد أنفسنا وبعضنا البعض، ناهيك عن حلفائنا أو حلفائنا المحتملين، لنصل في النهاية إلى تلك اللحظة التي يصفها المثل القائل "راحت السكرة وأجت الفكرة". وهي بلا شك لحظة ندم تمثل بحد ذاتها فضيلة محمودة، غير أنها لا ترفع الأذى المعنوي والمادي الذي ألحقناه، بكل خفة واستخفاف، بأنفسنا وببعضنا البعض.

القرية الفلسطينية، سالفة الذكر، لم تكن في موقع تحديد أو تغيير السياسة البريطانية. والخلاف بين أبنائها شكّل في المحصلة خسارة مادية وإنسانية، وأذى وعذابات نتج عنها هجرات وصراعات داخلية كان الجميع بغني عنها، لا سيما أن موضوع الخلاف نفسه لم يكن يستحق الثمن.

أنا لست ضد أن يتخذ الإنسان موقفا، يدافع عنه ويضحي من أجله. هذه هي قمة الاخلاص. ولكني لست مقتنعا أن يتمترس الإنسان ويستميت في الصراع حول موضوع جانبي، لا يقدم ولا يؤخر. بينما يتم في الوقت نفسه نسيان أو التقليل من شأن الأمور الاكثر أهمية، وذات الطبيعة المصيرية التي تهم الشريحة الأوسع منا، وتؤثر بعمق قضايانا الإستراتيجية.

·         الكاتب صحفي فلسطيني مقيم في عمان والقدس

أضف تعليقك