"تجديد الخطاب الثقافي" والتوازن المفقود

"تجديد الخطاب الثقافي"  والتوازن المفقود

 

 

بعد يومين على عملية "إفاقة" الخلية السلفية المتشددة "النائمة" في إربد، المرتبطة بداعش والمزودة بالأسلحة، والاشتباك مع أفرادها، طلب مني زميل في الصحافة أن أدلي برأيي في مسألة "تجديد الخطاب الثقافي". ولقد استغربتُ في الحقيقة هذا الطلب، وتوقفت عند مغزاه، إثر اعتذاري تلك اللحظة وتنويهي إلى أنّ الأمر يحتاج إلى ما هو أكثر من مجرد رأي بين عشرات الآراء المحشورة في نصف صفحة.. أكثر أو أقلّ قليلاً.

 

توقفتُ حيال التركيب الذي فاجأني: "تجديد الخطاب الثقافي"، وتساءلت إذا ما كان مطلقوه اليوم يعون أبعاده حقاً، وهل باتوا يدركون أنْ لا فاصل بين الخطاب الثقافي والخطاب الديني، باعتبار أنّ المعايير الأخلاقية التي تستند إليها مسلكيات المجتمع إنما تنبع من التفاعل الدائم بين الخطابين. فالثقافة تعكس المُثُل والمبادئ الإنسانية المؤكدة لحرية الاعتقاد والرأي والتعدد في النصوص الأدبية المختلفة، وشتّى صنوف الفنون من مسرح وغناء وموسيقى ورسم، إلخ. وتشكّل مجموعة النتاجات الإبداعية في كل ما أشرنا إليه من فنون وآداب، في ذاتها، نوعاً من خطابٍ ثقافي يسود المجتمع، أو جزءاً منه.

 

وعلى صعيد الفهم الديني للعالم بكليته وللذات بخصوصيتها وللآخرين باختلافاتهم، والعلاقات المتفاعلة السوية/ أو المتصارعة المتناحرة الرابطة لهذا المثلث، فإننا نعثر عليه مؤسِّساً للأجيال الطالعة من خلال الكتب المقررة على الطلبةوفقاً للمناهج التربوية. وهذه الكتب باتت، منذ وقت ليس قصيراً، موضع تساؤل حول مدى تمتعها بالرحابة الإنسانية المدركة بأنّ العالم قائم على التعدد، كما أصبحت مجال نقد ومراجعة في كثير من الدراسات والمقالات المتخصصة، المطولة. وسلسلة المقالات التي نشرها الدكتور ذوقان عبيدات، الخبير بوضع المناهج طوال سنوات من العمل في وزارة التربية والتعليم، تدلل في كل مرّة على أنّ توجيهاً مدروساً ومترسخاً يمكن قراءته في النصوص المقررة، يجعل هوةً بين أبناء المجتمع الأردني بناءً على اختلاف المعتقد الديني! يجعل من "داعش" فكراً سائراً بطلاقة بين أجيالنا المتتابعة!

 

غير أنّ المماحكات الرسمية حيال ضرورة إعادة النظر لا تتوقف، والتسويفات الحكومية تستمر، والتسويغات لا يتعب العنيدون من نشر "الكليشيهات" إيّاها: كلام عام لا يقدّم ولا يؤخّر! الأمر الذي يدعونا للتشكك في مدى جدية رافعي شعار "ضرورة تجديد الخطاب الديني" من المسؤولين! وهل هو مجرد "تطييب خواطر وتطمين قلوب" إلى أن تنتهي (كما يتوهمون) زوبعة داعش وأخواتها!

 

أعود إلى "خطاب التجديد الثقافي" مجيباً بأنّ المسألة ليست في تجديده، بقدر ما تتمثل في التعريف به وتعميمه. تعميم نصوصه المتميزة، المؤكدة على حرية المعتقد وبديهية التعدد، وخلق الألفة بين مبدعيه والأجيال الجديدة بإقرارها داخل الكتب وضمن المناهج. ليس هنالك من نصوص أدبية/ ثقافية/ إبداعية كتبها أدباء مواطنون تدعو للتفرقة والتمييز وبذر الأحقاد بين أخوة الوطن الواحد، ليطلعوا علينا بشعار "تجديد الخطاب الثقافي"، وكأنما ثمّة عَوار وطني أخلاقي في جملة نتاجاتهم!

 

وأن "نجدد الخطاب الثقافي" يعني، أولاً وقبل أي شيء، أن نتعرّف عليه، بالاطلاع على نصوصه بوصفها إحدى التعبيرات الحرة عن واقعنا الذي نعيش، بأقلام أدباء هم أفرادٌ في المجتمع الراهن يحيون هذه اللحظة. فمن المعيب أن يجهلَ طلاّبنا أدباء وطنهم، وينفرون من فكرة مطالعة نتاجاتهم كونها "محلية"، وبالتالي ليست ذات قيمة عالية مقارنة بما هو عالمي أو عربي، انسياقاً للصور النمطية السائدة المكرسة لعقدة النقص!

 

وأن "نجدد الخطاب الثقافي" يعني، لكي نؤسس لهذا الشعار معناه ودلالته، أن نقرأ الدواوين الشعرية، والروايات، والمجموعات القصصية، والدراسات النقدية. يعني أن نحتشد لنشاهد العروض المسرحية، والإنصات للموسيقى، وتأمل اللوحات التشكيلية.

 

يعني أن تصبح المكتبات مقصدنا الأول قبل محلات الديفيدي، والعروض السينمائية والمسرحية المختارة بديلاً عن التسكع في الشوارع، وغاليرهات الفنون علامة تحضُّر وأجدى من رصدنا لبعضنا والتحرش في الطرقات، ومهرجانات الغناء والرقص الراقي أكثر صقلاً للروح والشخصية من قتل العمر في الكوفي شوبات، والشغف بقراءة الكتاب بهدوء إعادة شحذ للعقول عوضاً عن ذبح الوقت الطويل بالثرثرات الكاذبة عبر وسائل اللاتواصل الاجتماعي، إلخ.

 

أن "نجدد الخطاب الثقافي" يعني أن نعي مفهوم الثقافة كأساس، وبعدها يحق لمن خطر له هذا الشعار أن يرفعه.

 

ختاماً وللتأكيد: لا فاصل بين الخطاب الديني والخطاب الثقافي إذا أردنا توازناً عاقلاً لمجتمعنا. لكن أحدهما حاضرٌ على نحوٍ يطاله الشك وتُحْدِق به الريبة. والثاني غائبٌ مغيَّبٌ بجهل أو بقصد.

 

فأيّ توازن نبتغي، ولأيّ تجديد نتطلع، وهل ستصيبنا المفاجأة من جديد لو "أفاقت" خلية داعشية كانت "نائمة" ذات يوم؟

 

إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.

أضف تعليقك