بِدْنا المسؤول "الدّقر"!

بِدْنا المسؤول "الدّقر"!
الرابط المختصر

خلال الأعوام الماضية، أشبعتنا النخبة السياسية والاقتصادية نقداً وشكوى من المسؤولين "الدّقرين" الذين يعيقون تمرير المشروعات والاستثمارات، ويمثّلون عائقاً في وجه الإنجاز المطلوب. لنكتشف، لاحقاً، أنّ الصورة معكوسة تماماً. فلعدم وجود هذا النوع من المسؤول "الدّقر" الذي يتوقف كثيراً عند القانون والمال العام والتقاليد الإدارية، تمّ تمرير العديد من الصفقات المشبوهة والمشروعات الفلكية الفاشلة، وتورّطت الدولة في أسئلة وشكوك الفساد التي هيمنت على مزاج الشارع!

المشكلة الجوهرية، خلال الأعوام الماضية، تمثّلت في المسؤول "الفهلوي" والضعيف والمرعوب، الذي يوقّع من دون أن يسأل، ويمرّر المشروعات والمعاملات من دون أن يرف له جفن، أو أن يسأل نفسه؛ طالما أنّ الأوامر جاءت من مستوى أعلى، أو تمّ الإيحاء بذلك، وهو غير صحيح. كما من دون أن يفكّر في المسؤولية القانونية والأدبية، وحتى الأخلاقية، لتوقيعه أو موافقته على هذه المعاملة أو تلك، التي تخالف القوانين، أو تتجاهل المعايير الإدارية والفنية، وتتساهل في المال العام.

أغلب المعاملات التي حدث الجدل بشأنها، والسخط الشعبي الكبير تجاهها، كانت تُمرّر وتُوقّع عبر وزراء ومسؤولين من دون أن يعترضوا أو يتوقفوا عندها، أو يفكّروا في مسؤولية التوقيع وخطورته، وفي إمكانية مساءلتهم على ذلك غداً. وقليلون أولئك المسؤولون والوزراء، للأسف الشديد، هم الذين "دقّروا"، وقالوا: لا نوقّع، على هذه المعاملة أو تلك المصروفات أو هذه التفويضات، لأنّها غير واضحة لدينا، أو لم تستوفِ الشروط القانونية، أو هي مخالفة للتقاليد الإدارية، ووقفوا في "وجه الضغوط"، ولم يستسلموا أمام التلويح بالثواب والعقاب، طالما أنّهم يلتزمون بمهمّتهم، وينظرون إلى دورهم بقداسة واحترام وهيبة.

قليلاً ما نجد مسؤولاً "دِقراً" في القضايا الكبرى، يضع قدميه على الحائط، ويرفع صوته ضد أي إيحاء بتمرير معاملة أو صفقة من دون أن تمر بالعملية القانونية والإدارية كاملةً؛ ويقف صلباً من دون أن يستسلم، ويسرّب للرأي العام والإعلام ما يدور في الخفاء لتمرير تلك المعاملة!

المشكلة، في الواقع، ليست مرتبطة بالمسؤولين والوزراء "الدقرين"، بل بندرتهم، وتلاشي هذا النوع الذي ينظر إلى المال العام نظرة قداسة وإجلال، ويرفض أن يتصرّف فيه أو يفوّضه، كما حدث خلال الأعوام الماضية. فانفلتت الأمور؛ إذ أصبح التوقيع بلا أي قيمة ولا معنى، ولا حتى شعور بالمسؤولية. ولم يشعر وزراء ومسؤولون بأيّ حرج عندما وقفوا أمام لجان المحاسبة والقضاء، ليعترفوا بأنّهم لم ينظروا في المعاملات التي وقّعوا عليها، لأنّ الإشارات التي كانت تأتي من الحكومة تطلب منهم التوقيع الأعمى!

من المفارقات الإدارية والسياسية الأردنية، أنّ لدينا مؤسسة ديوان المحاسبة، التي تمتلك كفاءة وخبرة إداريتين، وترعب المسؤولين والموظفين الصغار؛ فتحاسبهم على العشرة قروش قبل المائة دينار، وتصدر تقريراً دورياً تفضح فيه هذه المخالفات الإدارية والمالية. لكنّ هذا التشديد الكبير على المعاملات والإجراءات الإدارية الصغيرة والبسيطة، قابله تساهل وتفريط من مؤسسات الرقابة الأخرى تجاه المعاملات والصفقات والقضايا الكبيرة. فرأينا الموظف الصغير يُحاسب ويُراقب على مبلغٍ صغير تافه، بينما المسؤول والسياسي الكبير يمرّر معاملات بمبالغ كبيرة وطائلة، من دون حسيب أو رقيب!

الأصل في الإدارة الحكومية والسياسية هو الالتزام بالتقاليد والقوانين والتدقيق فيها و"التدقير" عليها، حتى في أكثر دول العالم تقدّماً. وكانت هذه هي الحال في عقودٍ سابقة؛ إذ لدينا قصص لمسؤولين كبار، كما محاضر لمجالس وزراء في تلك العقود، حين كان هؤلاء يقعدون "على ركبة ونص" لأيّ محاولة اختراق أو تلاعب بالمعاملات الإدارية والمالية. ولمّا تبخّر هذا النوع من المسؤولين، تبخّرت معهم أشياء كثيرة!.

الغد