بيْع الأسئلة الجيدة

بيْع الأسئلة الجيدة
الرابط المختصر

استعيد رواية “في خانة اليك” لمؤلفها السويسري أيوجين، وهي من ترجمة الشاعر وليد السويركي، والموجهة للفتيان والفتيات (14- 18 عاماً)، لكنها تفترض متلقياً ذكياً -مهما كان عمره- إذ تطرح أسئلة من شأنها التشكك بحقائق تبدو ثابتة وليست بحاجة للتساؤل حولها؛ وبيقينيات تمس تكوين المجتمعات والسلطة التي تحاول تكريس إجابات أكيدة وراسخة من أجل ديمومة وجودها.

 

تمثل المقولة التي افتتحت بها الرواية مدخلاً مناسباً لاستيعابها، وهي: “أن تكون راشداً ربّما هو أن تحيا الإجابات دون أن تُطرح الأسئلة، على سبيل المثال:

– لماذا هنالك حروب؟ يسأل الطفل.

– لسوء الحظ، هنالك حروب، يجيب الشخص الراشد“.

 

تلعب الطفلة ساشينكا دور البطولة لما تمتلكه من ذكاء وموهبة في طرح أسئلة تعترض على كل ما هو سائد، وتنجح في إرباك والدها صبيحة ذلك اليوم؛ لتوجيهها سؤالاً له حول سبب رفعه إصبعه الصغرى ليحدد كمية القهوة التي تسكبها زوجته في فنجانه، ورغم أن هذا الفعل عفوي يتكرر يومياً، إلاّ أن الأب أنكر للوهلة الأولى قيامه به لعدم تذكره فعلته، ما استدعى توضيحاً من الأم لها.

 

طرْح هذا السؤال البسيط، جلَب الحيرة للأب فلم ينتبه لمرور الحافلة التي تقلّه إلى العمل، وأقعدته في البيت ساعات مسائلاً نفسه حول سنيّ عمره الثماني والثلاثين، ليغادر البيت بعدها ويخطب بعمّال بلدته الصغيرة “نولو” محرضاً إياهم ضد ظلم السيد رودوي، مالك مصنع العلب وجميع المرافق التي بُنيت حوله، فتأسس تجمع من السكّان يرتهن له في جميع نواحي حياته.

 

لم تكتف ساشينكا باستفزاز أبيها، بل واصلت لعبتها، مؤمنة بقدراتها الفريدة، لتدفع شرطيي السير إلى ترك عملهما بسؤالها المشكك حول ديمومة القوانين، ثم تحرج مدير مدرستها- صهر رودوي- لسؤاله عن ماهية الورقة البيضاء.

 

تستدعي أسئلة ساشينكا وقفة على كيفية التوجه للفتيات والفتيان، فهي تشير إلى ثقافة تشرك الطفل نداً في عملية بناء وعيه ضمن رؤية تؤمن بنسبية الحقيقة وتعددها، خلافاً لثقافات أخرى، ومن أبرزها الثقافة العربية التي تنظر إلى أدب الطفل –عموماً- كمادةٍ وعظيةٍ وإرشادية، وتصنّف الأفعال والصفات والأشخاص فيه: شريرين أو طيبين!

 

“في خانة اليَك” نموذج لكتابة بسيطة وعلى درجة عالية من العمق والغنى، سواء في مضامينها أو في تصورها لشكل الحكاية التي تحاك بعفوية، وتظل حمالّة لمفاجئات ومفارقات تمنح القارئ الإثارة، وتصنع له غموضاً ما يسعى لملاحقته طوال العمل، إضافة لتلك اللغة النادرة في امتلاكها تساؤلات فلسفية ومعرفية عميقة من دون أن يتخلى كاتبها عن مواجهة النشء وتورطيهم في لعبته.

 

تنتقد الرواية نظام التعليم الذي ينحاز إلى خطاب معين أو يسلّم بأفكار مسبقة، وكذلك السلطة التي يمثلها رودوي، لكن الأهم يكمن في تعاملها مع العقل الإنساني من خلال تفكيره واستجابته للأسئلة، وما ينتج عنها من أجوبة، وما تدفع به تلك الأجوبة من تساؤلات حولها مجدداً، ليضع يده على أخطر ما يجب أن يتعلمه الطفل، لكنه يبدو مفقوداً في مجتمعاتنا ويجري إغفاله عن سابق إصرار وتعمد!

 

يبدع أيوجين في خلق شخصية السيد كاشكافال، حارس المدرسة، الذي يعجب بساشينكا ويدير معها حواراً عميقاً، خاصة في قوله: “أن الناس الاستثنائيين، لا بدّ أن يكونوا عاديين إلى حدّ ما وأنّ الناس العادييّن هم في أحيان كثيرة، إن نحن كلّفنا أنفسنا عناء معرفتهم، استثنائيّون“، وهو لا ينفك عن إثارة مزيد من الأسئلة أو في إبداء ملاحظاته حول تساؤلات الطفلة المشاكسة ليشير إلى “معرفة مهمة” لا نتلقاها في المدارس.

 

لهذه الشخصية دورٌ أساسي في شحذ همة ساشينكا حتى تبلغ أسئلتها النهاية بتحطيم سلطة رودوي عبر احتجاجات العمال التي حرّضتهم، وينجح كاشكافال في إقناع الجميع بإيداع أسئلتهم لدى ما كان سابقاً يسمى مصنع برودوي، ثم تباع تلك الأسئلة في أنحاء العالم أجمع، حيث السؤال الجيّد من شأنه أن يزعزع الأفكار المستقّرة، وأن يكسر العادات، على حد قوله.

 

تتوقف ساشينكا عن استخدام قدرتها الخاصة، لكن قد يأتي يوم تشعر فيه مجدداً بالحاجة لفعل ذلك، ما دامت تعرف جيّداً أن الأمر لا يتعلق بقدرة يمكن استخدامها بطيش وخفة.

 

  • محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.
أضف تعليقك