بيوت من رمال

بيوت من رمال
الرابط المختصر

"عِشِ اِبقَ اِسمُ سُد قُد جُد مُرِ اِنهَ رِفِ اِسرِ نَل غِظِ اِرمِ صِبِ اِحمِ اِغزُ اِسبِ رُع زَع دِلِ اِثنِ نُل * وَهذا دُعاءٌ لَوْ سكَتَّ كُفِيتَهُ لأنّي سألْتُ الله فيكَ وَقَدْ فَعَلْ”.

لم يبقَ في ما يبدو في جعبة شاعر العرب المتنبي من أدوات المديح والنفاق الصريح ما يسعفه ليستدر عطف القادة والزعماء ويخرج ما في جيوبهم عطايا تنهمر عليه انهمار المطر في أوج الشتاء؛ سوى نظم أبيات فيها من اللعب بالألفاظ وحذف حروف العلة من الأفعال من هنا وهناك ليخرج هذا البيت الشهير الذي جلب له من المال الكثير والوفير.

فاق المتنبي في نفاق الحكام “متنبي المغرب العربي" الشاعر ابن هانئ الأندلسي الذي مدح الخليفة المعز لدين الله الفاطمي فأنشد يقول: ما شئتَ لا ما شاءت الأقدارُ * فاحكم فأنتَ الواحدُ القهّارُ”.

هذان النموذجان من الشعر السلطوي يجسدان جانباً مظلماً وشائعاً في تراثنا الثقافي الذي يتعلمه أطفالنا وشبابنا في المدارس في إطار “البلاغة والفصاحة والذكاء والإبداع....”، ليغدو نفاق الشعراء الذين ألّهوا الحكام أو كادوا يفعلون؛ مسألةً ثانويةً لا يناقشها المدرسون في الغرف الصفية بل يعولون على النظم والقافية والوزن والصور الشعرية بمعزل عن ما تحمله القصيدة من أشكال مقززة من النفاق والتملّق.

هذه القراءة السطحية التي تعتمدها مناهج التربية والتعليم للتراث الثقافي التي تستصحب معها منظومة قيمية فاسدة تجعل من النفاق فهلوة وحنكة ومن التلطّع على أبواب السلاطين حرفة مقبولة ومن رضاء واسترضاء الحكام في سفقة “المديح مقابل المال” سياسة وكياسة... من شأنها أن ترسخ النواقص الأخلاقية في وجدان الأطفال والشباب الذين سوف يَكبُرون وهم يُكبِرون أئمة النفاق وعباد السلاطين دون أن يكون في ذلك ثمة غضاضة أو ضير من وجهة نظرهم.

سبق وأن تعرضنا في مقال سابق لكيفية مديح المتنبي لكافور بأبيات فيها من المباني والمعاني ما تقشعر منه الأبدان ثم كيف أنه انقلب عليه لمّا لم يدرهمه فأخذ يهجوه بأقبح العبارات وينعته بأشد الأوصاف بشاعةً وشناعة، ومع ذلك فقد علمونا أن كلا النظمين ممتازين وشاعرهما له من المكانة والتوقير والتبجيل ما لا يمكن مناقشته أو الجدال فيه.

إن تدريس التراث الأدبي بعجره وبجره ودون قراءته ومناقشته بأسلوب نقدي بناء يتصدره النقد القيمي قبل النقد البلاغي واللغوي؛ سوف يقود إلى قلب موازين المبادئ الأخلاقية المشتركة التي استقرت عليها ضمائر الأمم الجمعية فلا يخالفها إلا شاذّ الفطرة والثقافة، فهذا الشذوذ عمّا توافقت عليه ضمائر الأمم مبعثه إسباغ الحمد والثناء على شعراء وأدباء ومن قبلهم وبعدهم رواة سير ونقول؛ يقطع نتاجهم الفكري والأدبي والشعري والنصي بانحرافهم وفساد سجيتهم.

 على وزارة التربية والتعليم والمعنيين كافةً الالتفات إلى أهمية مضامين ما يتم تدريسه للطلبة ولو كان على مستوى أمثلة ونماذج شعرية أو أدبية الغرض منها تدريس العروض أو النقد والبلاغة، بحيث يتم التثبت من أن هذه النماذج نقيةً ومنزهةً من النفاق أو التقرب إلى الحكام أو ذمهم لأنهم لم يدفعُ “المعلوم”، أو إذا كان لا بد من تدريسها فليكن تحليلها قيميّاً وأخلاقياً أمراً واجباً على المدرسين وذلك جنباً إلى جنب مع التحليل والتأصيل البلاغي وذاك الخاص بعلم العروض.

في تراثنا الثقافي الكثير من النماذج المشرقة والمشرفة لكن إذا كانت أسماء وقامات مثل المتنبي وابن هانئ الأندلسي وغيرهما من الشعراء والأدباء والرواة قد استغلوا مواهبهم لنفاق السلاطين وجني الدراهم والهدايا منهم، فذاك أمر وجب مناقشته وتفهيمه للطلبة كما هو كي لا يدور في خلدهم أن هذه مهنة سهلة لطيفة خفيفة تدر المال دون إشغال البال، فما أقام النفاق مجدا ولا خلّد إسما، وبيوت الشعر التي عمادها نيل حظوة عند أهل السطوة، ما هي إلا بيوت من رمال قوامها ما يرمى لنظميها من رخيص المال.

 

مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.

أضف تعليقك