بين الحرية والليبرالية..الإعلام العربي سلطوي النكهة
لا شك أن الجدل لا يزال محتدما حول مفهوم حرية الإعلام في العالم بين رؤيتين، الأولى تتجه إلى اعتبار حرية الإعلام مطلقة أي أن يكون بلا قيود، واستخدام كلمة (Freedom) كتعبير لحرية الإعلام، وهذا ينسجم مع ما ذهب إليه القاضي السابق في المحكمة العليا الأمريكية "هوجو بلاك" في تفسيره لعبارة حرية الصحافة التي وردت في التعديل الأول للدستور الأمريكي مبينا أنها" الحظر المطلق لإصدار أية قوانين تمس الصحافة من قريب أو بعيد"، وهو توصيف لاقى القليل من الأنصار في العالم والذين يرون انه من الصعوبة بمكان أن يكون الإعلام حرا بهذا المعنى خاصة مع هذا التطور الهائل الذي جاءت به الثورة الرقمية التي يشهدها العالم الآن والتأثيرات الكبيرة التي أسقطتها على صناعة الإعلام .
أما الرؤية الأخرى فتميل إلى توصيف حرية الإعلام بكلمة (Liberty) أي الليبرالية التي تعني نظاما متكاملا من الحقوق يتمتع بها الإعلام والواجبات المفروضة عليه تجاه الفرد والمجتمع، وقد عبر عن هذه الرؤية الخبير الأمريكي في شؤون الدستور "توماس كولي" والذي قال "إن حرية الصحافة تعني الحق في أن تنشر ما تريد، وان يتم حمايتك من أية مساءلة" لكنه أضاف إلى ذلك عبارة مهمة تقول "وذلك فيما عدا المنشورات التي لها علاقة بالإلحاد أو الفاحشة والتي تشكل فضائح أو المنشورات الزائفة والقذف والمنشورات التي تضر بسمعة الفرد والمجتمع".
في إعلامنا العربي الجدل لا يزال متأخرا عن تلك الرؤيتين، فلا نزال نتحدث عن المحاولة للخروج من الإطار السلطوي للإعلام إلى الإطار الليبرالي الذي يعني أن للإعلام حقوقا أهمها الحق في الحرية، وعليه واجبات تجاه المجتمع أهمها أن لا يمس سمعة الأفراد وان يحافظ على حقهم في معرفة الحقيقة.
فنقطة الصراع تتمركز حول تخوف الحكومات العربية من أن تزداد قوة الرأي العام فيما لو أصبح هامش الحرية في الإعلام العربي قادرا على ضخ المعلومات والحقائق بانسيابية للجمهور، وان يعتمد الفرد العربي على وسائل الإعلام في تشكيل اتجاهاته ومواقفه من الحكومات خاصة في القضايا السياسية والاقتصادية.
فلا تزال الحكومات العربية تتحدث عن حرية الإعلام من عقلية لم تتخلص بعد من النظرة السلطوية تجاه الإعلام. وشهدنا في الآونة الأخيرة تعديلات على قوانين المطبوعات والنشر العربية التي تحكم عمل الصحافة أهمها إلغاء بعض البنود التي تتحدث عن حبس الصحفيين، إلا أن الباحث فاروق أبو زيد ومن خلال دراسته لستة عشر قانون مطبوعات ونشر في الدول العربية توصل إلى أن الصبغة السلطوية لا تزال تسيطر على هذه القوانين.
لا يمكن القول إن تغييرا جوهريا حدث في مشهد الإعلام العربي من حيث الاتجاه نحو الليبرالية أو الحرية، فما حدث هو تغيير لإستراتيجية الحكومات في السيطرة على الإعلام، فاهم الملامح التي بتنا نشهدها هي تخفيف القبضة الحكومية المباشرة على وسائل الإعلام ونقل هذه القبضة إلى نقابات الصحفيين من خلال دعم الحكومات لمرشحين محددين لمنصب نقيب الصحفيين، بالإضافة إلى ضغط الحكومات على تلك النقابات من اجل تعديل قوانينها بما يخلق قيودا صلبة على الإعلام في تلك القوانين، وهذا يعد مقايضة تقوم بها الحكومات تعتمد أساسا على تخفيف حدة القيود في قوانين المطبوعات والنشر مقابل تشديد الإجراءات العقابية على الصحفيين بموجب قوانين تلك النقابات.