بهذا تزدان جذور المسيحيين العرب ووجودهم وبهذا يزهون
يطيب لي أن أبدأ بحدثٍ طفِقت أخص به زملائي المسلمين. وهو حدث مصداق لقوله تعالى: «ولتجدنّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون».
كنت قَبِلتُ عرضاً أكاديمياً للتدريس في جامعة ولاية أوريغون ببلدة كورفالس بالولايات المتحدة عام 2001 وفي الأوقات المحددة للطلاب في مكتبي دلف إليه طالب طويل القامة نحيفها أشقر الشعر أبيض الوجه وسيمه واسمه Case Bowman وقال من ضمن حديثه إلي: «هل تأذن لي بسؤال شخصي؟» فأذنت له وقال:»سمعت أنك تدين بالمسيحية» أجبت «والذي سمعته صحيح» فقال: «سؤالي هو كيف تحولت أنا البعيد عن الأراضي المقدسة آلاف الأميال، كيف تحولت إلى الإسلام بينما أنت في وسط الأراضي المقدسة ما زلت تدين بالمسيحية؟»
فاجأني سؤاله حقاً إذ لم يسبق أن سألني جواباً عليه أحدٌ، وأجبت وسط المفاجأة: «من أين أصولك؟» قال: «جدي هاجر إلى هنا من اسكتلانده.» قلت: «أترى؟ إن جذورك في هذه الديار عمرها للآن ثلاثة أجيال وتستطيع أنت الجيل الثالث أن تقتلع جذورك وتعيد غرسك وإنباتك في أرض غريبة دون كبير عناء وستحيا بعدها حياة ترتضيها. أما أنا فإن جذوري في موطني ضاربة في الأرض منذ قرون، فإذا حاولت مثلك نزع جذوري لإنباتها في بيئة أخرى فلا فرصة لي للحياة. وعلى كل حال إذا دق عليك أمر في الإسلام فإنني أرحب بك كي أشرحه لك وتفهمه، فالإسلام ثقافة لي وحضارة.»
ثم جاءني Case بعد أسبوع ودعاني إلى مناظرة قام بتنظيمها بين اليهودية والإسلام، فذهبت إليها وجلست في الصفوف الخلفية العليا من المدرج ورأيت شخصاً يتزيا بلباس العرب جالساً أمام السبورة، وطفقت أبحث عن اليهودي المناظر ولم أعثر عليه إلا بعد أن قدمه عريف الحفل السيد Case وكان يتزيا بلباس الغرب وكان أستاذ الاقتصاد في الجامعة لهجته أميركية لا لكنة فيها ولا لحَن. بينما اللكنة في حديث صاحبنا واضحة جلية يصعب على الحضور فهم حديثه بسببها.
كان حديث صاحبنا عن الإسلام سطحياً تناول قصة آدم وحواء ومادة علمها لنا أساتذتنا في المدرسة العبدلية في الصف الرابع ابتدائي، أما حديث الأستاذ اليهودي فكان ثيولوجيا راقياً فصيحاً مفهوماً.
ثم بدأت بعد مقدمتهما عن دين كل منهما مناظرة بينهما، وكان اليهودي يكسب بالنقاط تباعاً، وشعرت أن قدماً تسحق قدمي إزاء ما يحدث. وجاء تعليق للأستاذ اليهودي يقول فيه: «أنتم في الإسلام ليس عندكم قانون لإنفاق الصدقات مثل ما عندنا في اليهودية إذ أن إنفاق الصدقات عندنا مقننٌ نلتزم به». هنا نهضت من مقعدي وطلبت من Case أن يأذن لي بالرد عوضاً عن صاحبنا. وأذن لي طالبي بالرد وقدمني للحضور على أنني أستاذ من الأردن. فقلت للأستاذ اليهودي: «مع كل احترامي لقانون إنفاق الصدقات في اليهودية إلا أن ذلك القانون من وضع رجال الدين اليهود ممن اجتمعوا في طبريا وقننوا العديد مما لم يكن جلياً في التوراة. أما في الإسلام فإنفاق الصدقات جاء بقانون رباني أنزل على النبي محمد، ولأنه كلام رباني سأتلوه كما أنزل ثم أتبعه بالترجمة إلى الإنجليزية: « بسم الله الرحمن الرحيم، إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل.» وقمت بالترجمة بعد ذلك، وأضفت مخاطباً الأستاذ: وأنا متأكد من أن ادعاءك بغياب قانون لإنفاق الصدقات في الإسلام ناجم عن جهل بالإسلام وليس عن نية التهويش على الإسلام وسمعته.
وفوجيء الأستاذ اليهودي بالرد فقال: «أنتم المسلمون في بلادكم تمارسون التمييز ضد المسيحيين واليهود ولا تسمحون لهم بفرص تماثل الفرص المعطاة لكم». محاولاً استمالة الحضور ذي الأغلبية المسيحية، ونهضت ثانية من مقعدي وتناولت هوية الأحوال المدنية من محفظتي وأريتها للحضور قائلاً إن هذه الهوية وثيقة حكومية رسمية لإثبات تمتعي بالجنسية الأردنية، وتقول في وجهها أن اسمي هو كما قدمه عريف الحفل المحترم، وتقول في وجهها الآخر أن ديانتي هي المسيحية. فأنا المتحدث إليكم مسيحي، ولقد بلغت في بلدي الذي فيه الإسلام هو دين الدولة، بلغت من المراتب ما لم يبلغه معظم أمثالي من الشباب المسلمين، فما الذي تقصده يا سعادة الأستاذ من ادعائك التمييز بين أتباع الديانات في البلد المسلم؟ إلا أني على يقين أنك بقولك لا تبغي إلحاق سوء السمعة بالإسلام وإنما قلت الذي قلته لجهل منك في الإسلام، ونصيحتي أن تقرأ عن الإسلام ووسطيته وعدالته قبل أن تتحدث فيه.
وكان لردودي وقع طيب في الحضور وحيوا أقوالي بالتصفيق. ولدى انتهاء المناظرة ذهبت إلى صاحبنا شيخ مسجد عاصمة الولاية ورجوته بحرارة أن يعتذر عن قبول أي دعوة في أميركا للحديث عن الأسلام. انتهت قصة ذلك الحدث.
ودائما ما أعلن أنني كمسيحي مشرقي لست غريباً في هذه البلاد ولا على المسيحية، فوجودي فيها وجود المسيحية ذاتها، وما بقائي على دين المسيحية منذ الفتح العربي الإسلامي إلا شهادة على وسطية الإسلام وعلى قبوله الآخر. وتزدان جذوري برسالة النبي العربي الأمين إلى نصارى نجران وإلى رهبان طور سيناء كما تزدان بزيارة الوفد الأردني برئاسة مطران إيلة يوحنا بن رؤبه إلى النبي العربي الأمين في تبوك حين أكرم وفادتهم وألبس المطران بردته وأعطى عهد الأمان لأهل إيلة وضيوفهم وإلى من ركب البحر معهم.
ويزدان الوجود المسيحي في تاريخنا قبل الإسلام بمآثر العديد من شعراء العربية ويزدان أيضاً بكون الزوجة الأولى للنبي قبل البعثة وهي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب المسيحية الديانة والزواج. ونزهو بدور المسيحيين في الفتوحات العربية الإسلامية وخاصة في فتح بلاد الشام وفي الفتوحات غرباً وشرقاً، فقد ساهمت قبائل تميم وتغلب وغسان وجذام ولخم وتنوخ وبكر وكلها كانت تدين بالنصرانية في هذه الفتوحات بشكل حاس قبل دخول الكثيرين منها في الإسلام.
وتقوى جذورنا بالأدوار التي لعبها المسيحيون في قيام الدولة العربية وفي الدواوين والترجمات عن الإغريقية واللاتينية. ولي أن أخص بالذكر الدور الذي قام به الأمير حسان بن مالك بن بحدل الكلبي المسيحي الديانة الأردني الهوية في تثبيت ملك بني أمية بعد وفاة الخليفة معاوية الثاني بن يزيد بن معاوية. إذ أقدمت أقاليم الحجاز والعراق ومصر ومعظم سورية على بيعة عبدالله بن الزبير بن العوام، فوالده الزبير من صحابة الرسول من العشرة المبشرين بالجنة وجده العوام بن خويلد بن أسد هوأخو خديجة زوجة الرسول الأولى وكذلك ابن عم ورقة بن نوفل بن أسد أسقف مكة والعوام أيضاً كان زوج صفية ابنة عبد المطلب عمة الرسول العربي الأمين. فمؤهلاته للخلافة واضح وقد نازع بني أمية (معاوية ويزيد ومعاوية الثاني) على الخلافة وتمترس ضدهم في البطحاء مكة المكرمة.
أعود إلى دور الأمير حسان بن مالك بن بحدل الكلبي (وأبوه مالك شقيق ميسون بنت بحدل الكلبي زوجة معاوية أم يزيد وأم رملة) في تثبيت ملك بني أميه، ففي إثر بيعة الأقاليم لعبد الله بن الزبير خرج مروان بن الحكم أقرب الأمويين لمعاوية خرج على رأس وفد من دمشق لمبايعة عبدالله بن الزبير فاعترض طريقه الأمير حسان في الجابية وطلب إليه أن يعود بوفده إلى دمشق لأنه أي مروان بن الحكم أولى الناس بالخلافة. وشاركه في إقناع مروان بن الحكم كل من عبيدالله بن زياد بن أبيه وعمرو بن سعيد بن العاص وعمل الأمير حسان على جمع كلمة القبائل اليمنية لتدين بالولاء لبني أمية وكان رد فعل أنصار ابن الزبير بقيادة الضحاك بن قيس الفهري ومعه زعيم قنسرين زفر بن الحارث أن عملوا على جمع كلمة القبائل الفيسية لتبقي ولاءها لابن الزبير. التقى الجمعان في مرج راهط بالقرب من دمشق وكانت الغلبة للقبائل اليمنية وثبت ملك بني أمية في مروان بن الحكم بعد أن بايع الناس حساناً بن مالك أربعين يوماً.
هذه عمق الجذور وصلابتها في تاريخنا العربي وهي جذورنا ومنها نستقي أدوارنا. فلا غرو إذن ولا غضاضة أن نرى آل البستاني من مسيحيي لبنان يحرصون على اللغة العربية نحوها وبلاغتها وآدابها فيحفظونها من بطش الحكام الأتراك في أواخر القرن التاسع عشر أيام سيطرة حزب تركيا الفتاة على الحكم، ولا غرابة أن نرى رواد النهضة العربية الحديثة من المسيحيين أمثال خليل السكاكيني المقدسي وسليم تقلا وشقيقه بشارة مؤسسَيْ دار الأهرام وجرجي زيدان مؤسس دار الهلال ونجيب الريحاني ونجوم المهاجر أمثال جبران خليل جبران صاحب «النبي» وميخائيل نعيمه وإيليا أبي ماضي وفوزي المعلوف ورشيد سليم الخوري ( الشاعر القروي) وغيرهم كثيرون. والشخصيات العقائدية والسياسية من مثل بشاره الخوري وميشيل عفلق وجورج حبش وقسطنطين زريق وغيرهم كثيرون.
ولا أدل من القرآن الكريم في تبيان علاقة المسلمين مع غيرهم من أصحاب الديانات التوحيدية ففي سورة البقرة الآية 136 نجد الأمر الرباني للمسلمين في قوله تعالى: «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَاأوتِي َمُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ من رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بيْنَ أحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ». وقوله تعالى في سورة المائدة الآية 69: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. وغيرها آياتٌ كثرٌ تحث على التقارب والتآخي بين أصحاب الديانات التوحيدية.
هذا ما نراه في الإسلام الذي أنزل كتابه القرآن عربيا. وهو الأساس الذي نعتمده معتقداً للمسلمين في تعاملهم معنا وتعاملنا معهم. وإذا أضفنا إلى كل ذلك الأصول العربية لمعظم مسيحيي المشرق من تميم وغسان وجذام ولخم وتغلب وتنوخ نرى أن عوامل اللحمة بيننا وبين أخواننا المسلمين عوامل يأمر بها الدين وتمليها الروابط القومية والتاريخ المشترك وكذلك المصير المشترك.
وها قد بلغْتُ من الكبرِ شأوا، ونشأت في مدارس المملكة أيام كانت وزارة التربية والتعليم هي وزارة المعارف، ولم أشعر مطلقاً أنني مختلف عن زملائي المسلمين حتى إنني تعمدت حضور حصص الدين الإسلامي مع زملائي يعطيها المرحوم الشيخ محمد عبده هاشم. وكانت مرتبتي في مبحث الدين الإسلامي، كما في سائر المباحث، عام 1955 الأول!
فإذا أمعنت في سرد خبرتي الشخصية أسائلكم: ما الذي أعادني إلى بلادي عام 1970 بعد أن اكتسبت إقامة دائمة في الولايات المتحدة لحصولي على درجة الماجستير في الهندسة المدنية وحصولي على درجة الدكتوراه بعد ذلك وكلا الدرجتين من جامعة أميركية مرموقة، وحصولي على وظيفة في البحث الهندسي في أرقى مراكز البحث في ميداني، أسائلكم ما الذي دفعني للعودة إلى البلاد وكنت قد نشرت أوراق بحوث في المجلات المرموقة المحكمة حصلت واحدة منها على جائزة أحسن بحث للعام 1972 من جمعية المهندسين المدنيين الأميركيين؟ والجواب على سؤالي لكم هو مثل بارز في الديار الأعجمية يقول «The call of the wild» وفي أمثالنا العامية الأردنية قول حكيم هو: «ربّوني وأنا بعرف أهلي».
أجيب أنني عُدْتُ استجابة لنداء بلادي على لسان رئيس الوزراء آنذاك المرحوم الشهيد وصفي التل. عدت ولم أكن مديناً لبلادي كما هم مدينون للخدمة فيها كل من بعثته البلاد بعثة للدراسة، فلقد أتممت كل دراستي الجامعية والدراسات العليا ولم أكلف بلادي أية نفقة مالية ولم تبتعثني كما فعلت لغيري من الطلاب رغم أن ترتيبي في امتحانات المترك كان الأول على الضفة الشرقية والخامس على الضفتين عام 1957. أقول عدت استجابة لنداء الوطن وقد أنهكته الحرب ونتائجها وأنهكته الصراعات المحلية وأوقفت نموه. عدت في شباط عام 1971 ولم أندم على عودتي أبداً إذ شرفت بخدمة الملك والوطن وشهدت مستوى معيشة أبناء وطني، وخاصة في الأغوار، تحلق إلى المستويات المقبولة بعد عقد ونصف من العمل الشاق المضني.
سألني مسؤول عن حكمة عودتي إلى البلاد بعد أن فُتحت الطريق أمامي في أميركا فأجبته بقول للشاعر ابن الرومي إذ قال:
ولي وطنٌ آليتُ ألا أبيعَهُ
وألا أرى غيري له الدهرَ مالكا
فقد ألفتهُ النفسُ حتى كأنه
لها جسدٌ لولاه غودرت هالكا
وحبّبَ أوطــان الرجالِ إليهُمُ
مآربُ قضّاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهمُ
عهودَ الصبـا فيها فحنوا لذلكا
تشرفت بخدمة بلادي وقمت بالواجب مع زملاء أفاضل في الدفاع عنها إزاء أطماع عدونا في مواردها وتذكرنا الشهداء من أبناء شعبنا في اللطرون وباب الواد وعلى أسوار القدس ثم في قبية ونحالين والسموع وفي ملحمة الجيش العربي في جنين وفي ملحمته في الكرامة وفي غور الصافي، وهم أكرم من خدم الوطن وأجودهم:
يجود بالنفس إن ضنّ البخيلُ بها
والجودُ بالنفس أقصى غاية الجود
وأنتقل الآن إلى السؤال الذي يجول في خاطر الغالبية من القراء الأكارم:
«كيف تشعر إزاء تهديد المنظمات المتطرفة المتسربلة بالدين الحنيف؟ هل أنت من أهوالهم في مأمن؟»
والجواب عندي ذو شقين فيهما اتساق واتفاق: الشق الأول وطني وجوابه أنني أشعر بمأمن منهم كما أنتم المسلمون تشعرون، إذ لدينا جميعاً قيادة واعية فذة تدرك المخاطر وتستعد لها بجيش ممتهن وأجهزة ساهرة لتأدية واجباتها. والشق الثاني سياسي استراتيجي يؤكد الأمن لي ولكم ولكل أبناء وطننا، فأمن المنطقة بأسرها أكثر حساسية بأمن بلدنا من أمن سواها من البلدان كسوريا أو العراق. وليست هناك فرصة، في تقييمي المتواضع، لنجاح أية مغامرة قد تستهدف أمن الأردن واستقراره حتى وإن أعطيت لبوساً مختلفة كنشر الديموقراطية ومحاربة الفقر فجهود الأردن في بناء الديموقراطية وفي محاربة البطالة والفقر يشهد لها اهتمام قائده العميق بها ومتابعته لإنجازات حكوماته حيالها. وعلينا جميعاً واجب الحفاظ على سلامة النسيج الوطني وحمايته، فالوطن عزيز بلحمته وباستعداد أبنائه للذود عن حياضه.
* عضو مجلس الأعيان
* رئيس مجلس أمناء جامعة العلوم والتكنولوجيا