برودة حراكنا الثقافي

برودة حراكنا الثقافي
الرابط المختصر

ا يمكن استبعاد الحراك الثقافي الأردني ، تاريخياً ، من مستوى الحراك الثقافي العربي ، عموماً: فالبدايات تبدو متشابهة في معظم الأقطار العربية ، ربما باستثناء الحركة الثقافية المصرية ، التي بدأت في وقت مبكر بسبب حملة نابليون ومطبعته التي كانت تجاور المدفع.

والحراك الثقافي الأردني ، الذي بدأ في مطلع خمسينيات القرن الفائت ، كان محملاً بالعديد من الرموز الإبداعية في الشعر والقصة ، وكانت الصحف والمجلات ، التي تصدر في فلسطين وعمان والقدس ودمشق وبيروت ، تحتفي - بشكل واضح - بالتجارب الكتابية الأردنية ، وتمنحها ضجتها التي تستحقها ، مثلما تمنحها التعقيبات النقدية التي تستحقها أيضاً.

واستطاع الحراك الثقافي الأردني أن يؤكد عافيته الإبداعية في ستينيات القرن المنصرم ، عبر رموز إبداعية شكلت نقلة حقيقية في الأدب الأردني على مستوى الشكل والمضمون ، وبدا جيل الستينيات كأنه يؤسس لانطلاقة حداثية جديدة.

ونحن - حينما نتحدث عن تعبير الحراك الثقافي ـ نشير ، ضمنياً ، إلى حركة النشاط الدؤوب ، الذي كان يتمثل في متابعة التجارب الكتابية الجديدة ورصدها ، ومن ثمّ الوقوف بالمرصاد على كل من تسول له نفسه الإبداعية خوض تجربة الكتابة من دون أن تؤهله لذلك. هذا إضافة إلى التواصل اليومي بين الأدباء في المقاهي بداية ، ومن ثم في رابطة الكتاب ، وفي الصالونات الأدبية ، عموماً.

وبصفتي من جيل السبعينيات ، فأنا ما زلت أذكر ذاك الحنو في التواصل بين الأدباء. وعلى الصعيد الشخصي ، لن أنسى ـ ما حييت - الورقة التي أعطتني إياها والدتي ، في ظهيرة يوم جمعة من عام 1974 ، وقرأت فيها العبارات التالية: ("العزيز خليل قنديل... أنا لا أعرفك شخصياً ، لكني ، وبعد أن قرأت قصتك المنشورة اليوم في ملحق "الدستور" الثقافي ، قررت الحضور من الزرقاء للتعرف عليك ، لكني ويا للأسف لم أجدك. على أمل التواصل الدائم"... القاص أحمد عبدالحق). كما أنني لن أنسى أن القصة القصيرة الأولى ، التي كنت أرسلتها إلى القاص الراحل خليل السواحري ، بحبرها الجاف المرتجف ، وكان ـ أيامها ـ مديراً لملحق "الدستور" الثقافي ، وهي بعنوان "المعطف" ، وكيف أن السواحري نشر تلك القصة مرتين متتاليتين.

والذاكرة التعاطفية تقودني إلى تذكر القاص محمود شقير الذي أشرف على طباعة مجموعتي القصصية الأولى "وشم الحذاء الثقيل" ، وتنقيحها ، بتبرع منه ، وكنت ـ آنذاك ـ في أبو ظبي.

والذاكرة تقودني إلى الرعب الذي كان يصيبني حينما كنت أكتب قصة جديدة ، وأذهب بها إلى منزل صديقي الشاعر المرحوم إدوارد حداد ، وكان يرفض العزيز إدوارد أن أقرأ قصتي الجديدة إلاّ بعد اكتمال الحضور من الأطياف كافة: الإيديولوجية والفكرية. وحينها كانت قصتي تدخل ، هي وحبرها ، الطازج امتحان القراءة الأولى وسط هؤلاء "العتاولة".

وقد ظل الحراك الثقافي الأردني يضخ أجياله بشكل معافى حتى منتصف التسعينيات. لكن ، ومع مطلع الألفية الثالثة ، دخل الحراك الثقافي الأردني مرحلة هي أشبه بمرحلة الكساح الثقافي.

ومع أن الملاحق الثقافية ظلت قائمة ، ودور النشر ظلت ـ هي الأخرى ـ تضخ كتباً جديدة ، ورابطة الكتاب ما زلت ، كذلك ، قائمة ، إلا أنه من الصعب جداً أن تجد من يقارعك في كتاباتك ، ومن المستحيل ، أيضاً ، أن تتلقى مكالمة هاتفية تعقب على مادة كتبتها ، أو كتاب نشرته. هذا عدا عن الجفاء وانعدام الحميمية بين الكتاب.

إنني أتحدث عن ظاهرة خطيرة تتمثل في هذا السكون الحجري في حراكنا الثقافي ، وفي هذا البرود الجمعي الذي تعانيه ثقافتنا الأردنية ، لا بل نعاني ضغائن نائمة وليست مبررة على الاطلاق. وتلكم هي كارثة الكوارث في حراكنا الثقافي.