انقسامات تعصف بالاتحاد الأوروبي
يشهد العام الحالي ما يمكن وصفه بأنه أقوى موجة انقسامات تضرب الاتحاد الأوروبي منذ نشأته. انقسامات شملت قضايا اقتصادية مثل دعم اليونان في أزمتها، وأخرى اجتماعية، مثل التعامل مع ملف اللاجئين، وأخرى سياسية مثل الموقف من التدخل الروسي في سوريا، لكن المسألة وصلت كذلك إلى حدود إعادة مناقشة أساسيات بناء الاتحاد، إضافة إلى الموقف من الأوروبيين من ذوي الأصول غير الأوروبية.
الدعم المالي لليونان، وإن كان مرّ وانتهى، إلا أنه وفي أثناء التباحث حوله أعاد النقاش إلى أساسيات الوحدة الأوروبية وأساسيات وحدة النقد الأوروبية، اليورو، وأظهر خلافات عميقة للغاية حول تحديد أسعار الفائدة ومستويات الضرائب والتأمينات الاجتماعية وغير ذلك.
الملف الأكثر سخونة هو الملف السوري، ببعديه السياسي والآخر المتعلق بموجة اللجوء التاريخية التي تضرب أوروبا منذ منتصف الصيف الحالي. تنقسم أوروبا بشدة حول هذا الملف ما بين فرنسا الأكثر تشدداً، وألمانيا الأكثر هدوءاً وانفتاحاً، فيما تتفاوت مواقف الدول المختلفة من مسألة استقبال اللاجئين. ورغم أن الاتحاد الأوروبي أصدر بياناً يحذر فيه من أن التدخل الروسي في سوريا يغير قواعد اللعبة إلا أن مواقف الدول المختلفة تباينت كثيراً حول الموقف من بقاء رأس النظام السوري بشار الأسد. ويبدو واضحاً أن عدداً من الدول، من بينها ألمانيا، تؤيد ضمناً الغارات الروسية على اعتبار أن ذلك هو أقصر طريق ممكن إلى الوصول لحل ما للحرب التي تشكل ضغطاً حقيقياً على أوروبا عبر طوفان اللاجئين وليس فقط عبر شاشات التلفاز.
أما مسألة اللاجئين ففوق وجود خلاف حاد حولها فقد دفعت دولاً مثل المجر، ولاحقاً ألمانيا نفسها كما النمسا والسويد، إلى اتخاذ إجراءات تخالف أهم مبدأ في الاتحاد، وهو حرية التنقل البشري عبر دول الاتحاد والقارة الأوروبية. والواقع أن سويسرا، وهي ليست عضواً في الاتحاد، قامت بخطوة مشابهة العام الماضي حيث أصدرت تشريعات تحد من حركة المواطنين الألمان والفرنسيين المنتقلين عبر الحدود يومياً للعمل في سويسرا. خطوة المجر جاءت مغايرة لخطوة سويسرا من حيث أن المجر أغلقت الحدود وحاولت إعاقة تنقل اللاجئين من حدودها الجنوبية إلى حدودها الغربية مع النمسا.
في العمق، فإن كل تلك الملفات ترتبط بانقسام أعمق وربما أخطر وأكثر تهديداً للحلم الأوروبي. إنه الشك في جدوى الوحدة من ناحية والتوجه نحو اليمين الذي تتصاعد قوته يوماً بعد يوم من ناحية أخرى، وهو اليمين الذي حقق مؤخراً المزيد من المكاسب في ألمانيا في وجه حزب زعيمة أوروبا غير المتوجة أنجيلا ميركل. اليمين الأوروبي كان جزءاً أساسياً من التوجه المعادي للاتحاد الأوروبي والمنادي بانفصال الدول عنه، ولهذا كان رافضاً لتقديم الدعم لليونان. واليمين هو الأكثر تشدداً في مسألة منع استقبال اللاجئين. وفي الوقت نفسه فإن قطاعاً متزايداً من المواطنين الأوروبيين يبدو أقل يقيناً إزاء جدوى بقاء دول أوروبا في عضوية ذلك الاتحاد، وأكثر تشككاً إزاء العلاقة مع المهاجرين من الجيلين الثاني والثالث، الذين لم تنجح مشاريع إدماجهم في المجتمعات التي يقيمون فيها رغم أنهم ولدوا وترعروا فيها، ناهيك عن الإشكاليات المرتبطة بالمهاجرين واللاجئين الجدد الواصلين حديثاً.
أكثر من ذلك، بدأت تصعد إلى السطح مناقشات جدية ضمن الدولة الواحدة حول جدوى استمرار بعض الكيانات. تصويت اسكتلندا ضد الاستقلال عن التاج البريطاني لم يهدئ المخاوف من موجة مشاعر انفصالية تعم أوروبا، فها هي كاتالونيا على طريق قد يؤدي إلى الانفصال. هذا ما هو معلن، لكن تحت السطح تتحرك عشرات الحركات الانفصالية تتفاوت في القوة والضعف، أشهرها إعلامياً حركة الباسك، ويوجد مشاعر انفصالية قوية في شمال إيطاليا الغني، الذي لا يرغب في تحمل عبء جنوبها الفقير، وفي فرنسا هناك ما يقرب من 10 حركات انفصالية معظمها غير معروف عالمياً، لكنها قوية محلياً. وفي الاتحاد الأوروبي نفسه نرى مواقف متمايزة ما بين ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، يتبعها مواقف ساخنة من قبل دول شرق أوروبا، فيما الجنوب التاريخي، إسبانيا وإيطاليا واليونان، ينوء تحت ثقل أزماته المالية الخانقة.
هل يعني كل ذلك أن الاتحاد سينهار؟ أم أن كل تلك المصاعب ستمر من دون تأثير؟ لا يمكن القفز إلى أي استنتاج بثقة وسهولة، فالذهنية الأوروبية مؤسسية إلى حد يمكن وصفها فيه بالبيروقراطية بكل ما فيها من بطء وروتين، وهي ذهنية تكره التغيير السريع. كل ما يواجهه الاتحاد الأوروبي هو أزمات وصعوبات وتحديات قد تدفع إلى مزيد من التطوير وإلى تغيير شكله الحالي، وحتى ربما إلى إنهائه، لكن أيّ من هذه الاحتمالات لن يرى النور في القريب العاجل. المؤكد والواضح أن الاتحاد لن يكون خلال الفترة المقبلة، بفعل الأزمات العديدة التي تعرقل انسياب قراراته، بالفاعلية التي كان عليها خلال الأعوام القليلة الماضية.
علاء الفزاع: كاتب أردني مقيم في السويد.