الوجه البشع للحضارة الحديثة

الوجه البشع للحضارة الحديثة
الرابط المختصر

الصعود الإنساني المتوالي في سلم التحضّر، وتطوير الخبرة البشرية والتوسع الهائل في ميدان التقدم التكنولوجي، يبتغي أن يسهم في زيادة منسوب السعادة للبشرية، وتقليل منسوب الشقاء، من خلال امتلاك القدرة على توفير الوقت وتقليل الجهد، والاستثمار الأمثل للموارد، ولكن عندما يتم الخضوع للفلسفة المادّية البحتة، الخالية من القيم النبيلة، وعندما يقع في مسار مخاصمة الرّوح، تقع في مربع التناقض وتظهر انبعاجات بشعة في المشهد الحضاري وتنقلب الموازين، وتنعكس الغايات أحياناً لتصب في خانة الشقاء والبؤس والمعاناة.

من أعظم الأمثلة الحية على ما سبق هو ذلك التطور المذهل في عالم الاتصالات، من خلال اختراع أجهزة الاتصال الذكية والعالية الجودة في مضمار التقنية المبدعة، التي أتاحت التواصل السهل والميسر بين الأصدقاء والأقرباء، وأصحاب المصالح التجارية والسياسية، وأصبح الحصول على المعلومة في غاية اليسر والسرعة، كما أتاحت للعاملين في ميدان الإعلام توفيراً هائلاً للجهد والمشقة، إضافة إلى إتاحة المجال لكم كبير من الناس من أن يعبّروا عن آرائهم وأفكارهم ومعتقداتهم، وتوصيل انتقاداتهم واعتراضاتهم على الآخرين بصوت مسموع ومرئي بلغتهم وطريقتهم في التعبير.

إلّا أن هناك مشاكل جمة وخطيرة تبرز في هذا الجانب، وهناك وجه بشع لهذه التقنية الواسعة يتجلى في عملية التجسس الكبرى التي تمارسها الدول والحكومات على شعوبها وعلى الآخرين، بطريقة مستفزة تتخطى كل حدود المنطق الإنساني السليم، وتتجاوز الحد المعقول من احترام الكرامة الآدمية، من خلال انتهاك الخصوصية الذاتية للأفراد واختراق الحرمة الشخصية للإنسان، والإطلاع على دواخل الإنسان، وعلاقاته السرية والمكتومة.

لقد كشفت التقارير الإعلامية مؤخراً عن عملية التجسس الكبيرة والواسعة التي تمارسها الولايات المتحدة الأميركية على مواطنيها وعلى مواطني دول أخرى كثيرة، وتصدرت إيران وباكستان والأردن المراتب الثلاثة الأولى في عملية الرصد والمراقبة لمجمل المكالمات الهاتفية والرسائل والتدوينات على الشبكة الداخلية ومواقع التواصل الاجتماعي، وتقول بعض التقارير أنه تم رصد (37) مليار قطعة، من مكالمات ورسائل وتغريدات ، تحت ستار حماية الأمن القومي، ورصد تحركات الأفراد والمنظمات التي تريد إلحاق الضرر بأمريكا..

عملية التجسس ليست متوقفة على الولايات المتحدة الأمريكية بل هي عادة مستحكمة تمارسها كل حكومات العالم، وتنفق على عملية رصد أنفاس مواطنيها مبالغ كبيرة، وتمثل تقنية الاتصالات الوسيلة الأكثر شيوعاً في عملية التجسس، وتمثل المصدر الأقوى على صعيد المعلومات الاستخبارية ، التي يجري توظيفها في عملية الصراع السياسي وتصفية الخصومات السياسية في خضم الصراع على السلطة.

لا تقتصر عملية التجسس ورصد الأنفاس على الأحزاب السياسية والمنظمات المتطرفة وما يطلق عليها "إرهابية" فقط، بل يتعدى ذلك إلى العامة، إذ أن هناك تجسسا آليا من خلال التركيز على ألفاظ محددة ومصطلحات مفتاحية، في كل المكالمات الجارية بلا استثناء، ولذلك هناك عملية اختراق عميقة بالتعاون مع شركات الاتصالات المحكومة باتفاقيات إذعان مع أجهزة المخابرات والأجهزة الأمنية التي وجدت ضالتها في انتشار هذه الخدمة واتساعها.

أصحاب السلطة، والأجهزة المتنفذة، والحكومات الديموقراطية وغير الديموقراطية تعطي نفسها الحق بالتجسس والدخول على أية مكالمة، وتعطي لنفسها الحق في انتهاك خصوصية أية شخصية، والإطلاع على أسرارها الاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن نشاطاتها السياسية. ولذلك فهي تملك قدراً كبيراً وهائلاً من الفضائح الاجتماعية وأصبحت وسيلة للابتزاز بكل فروعه وأصنافه وأشكاله، وحولت الفرد إلى كائن مكشوف وشفاف ومراقب في حركاته وسكناته في الليل والنهار!!

الاحتفاظ بالخصوصية الشخصية حق كل إنسان، ولكل فرد أسراره وعلاقاته الخاصة، التي لا تملك قوة في العالم حق كشفها وانتهاكها، ولذلك يجب المواءمة بين مسار التحضر والتقدم على صعيد المنجزات المادية والمعنوية وبين فلسفة الحفاظ على مستوى معين من الخصوصيّة الآدمية، التي يجوز انتهاكها تحت أي بند من بنود حفظ الأمن القومي للدول والحكومات.

قال تعالى في محكم كتابه: ((ولا تجسسوا))، وقال أيضاً: ((ولا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها)).. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تناجشوا، ولا تحاسدوا ولا تباغضوا..."، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يطلع أحدكم في كتاب أخيه، إلّا بإذنه".. ولذلك فإن للأشخاص حرمة، وللبيوت حرمة وللرسائل حرمة وسريّة، لا يجوز انتهاكها.

العرب اليوم