النظام والسلفيون: اللعب بالنار

النظام والسلفيون: اللعب بالنار
الرابط المختصر

أظهرت أفعال تنظيم داعش، في الفترة الأخيرة، تبايناً كبيراً بينه وبين الفرق السلفية الأخرى، خاصة في قضية حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، وقد حرص الإعلام الأردني الرسمي على إظهار شخصيات من قادة السلفية المعتدلة - إن صح التعبير- والسلفية الجهادية المعارضة لشكل الدولة أصلاً، وتدعو لإقامة خلافة إسلامية بديلة لدول الطواغيت القائمة.

 

الهدف الظاهر لإعلامنا من ذلك هو محاولة تعرية أعمال داعش وفضحها وكسب الشرعية الدينية أمام الرأي العام، ومن باب مقارعة الفكر بالفكر، لكن يبدو أن المحصلة النهائية سوف تغيّر مسار الحرب على داعش من قضية سياسية ومصلحة وطنية إلى حرب دينية للدفاع عن الإسلام وصورته، ويتضح ذلك من خلال التصريحات الرسمية على أعلى المستويات، فدخول الحرب ضد داعش ليس من أجل حماية الحدود الوطنية وسيادتها، بل من أجل حماية حدود الدين، والدفاع عن الله في مواجهة من يسيئون إليه، وصار من الممكن بعد مدة أن نعلن الخلافة الإسلامية الحقة ضد خلافة داعش المشوهة، وربما سيعاد إنتاج السلفية الجهادية لتصبح أداة الشرعية القادمة ضد داعش ومن حولها.

 

يحيلنا الحديث عن داعش وتطورها إلى النظر في التاريخ الذي هيأ لظهورها وتطورها، إذ بدأ الفكر السلفي منذ تشكيل الدولة في السعودية، والدعوة لتطبيق حكم الله في الأرض وتطبيق حدوده واتباع أوامره واجتناب نواهيه، وقد قامت السعودية كما هو معروف على التحالف مع الفكر السلفي ليمنحها الشرعية الدينية المطلوبة، واستمرت العلاقة هادئة ومتوازنة مقابل تطبيق شكلي للإسلام حتى ظهور القاعدة بعد تطورات دراماتيكية نتيجة الجهاد في أفغانستان، وجرى استغلال الفكر نفسه في صراع ضد الشيوعية "الكافرة".

 

وبعد الحرب الأفغانية التي خاضتها هذه الجماعات، ودفعت الدم الكثير في سبيلها، فشلت في إقامة الدولة الإسلامية هناك، وصارت القاعدة مهوى أفئدة الباحثين عن تطبيق حكم الله والجهاد ضد الكفار، ونتيجة لصراع جديد انقسمت القاعدة على نفسها وتشكلت مجموعات أكثر تشدداً في العراق لمحاربة أمريكا ومن يساعدها.

 

وشكّل أنصار الإسلام ومجموعة الزرقاوي أبرز الانقسامات، التي اعتبرت أن القاعدة قد انحرفت قليلاً عن مسارها الجهادي بالنظر لمصالحها السياسية، ثم أعقب ذلك مزيد من الصراعات أنتجت فرق جديدة، من أهمها جبهة النصرة لمحاربة العلويين والروافض في سوريا، كما أدى طول الصراع وضعف الدول إلى انقسام آخر وتشكيل ما يسمى دولة العراق والشام (داعش)، تعبيراً عن حلم الخلافة المنشود. ومن هنا - ورغم أن هناك تفاصيل كثيرة- فإن داعش هي إحدى تجليات الفكر السلفي، وإن اختلفت أشكاله.

 

يبدو الصراع بين هذه الفرق صراع مصالح يقوم على تأويل النص وليس على النص نفسه، فالنصوص موجودة ومتوفرة، وهي تشكل مرجعيات الفكر السلفي، الذي يعتمد على التأويل بما يتناسب مع المصلحة التي يريدها، فإقامة الخلافة، وتطبيق حكم الله والجهاد في سبيله، وقتل الكفار والمرتدين، وحرق الأعداء وإرهابهم، وقطع الأيدي والرؤوس، والسبي، وبيع الجواري، وغيرها، كلها تستند إلى نصوص وتمثلات ومواقف قام بها السلف الصالح وغير الصالح، ولأن السلفية تعتمد على هذه النصوص بحرفيتها ودون النظر للزمان والمكان والظروف التي استدعتها، فإنها تصبح مفيدة في كل زمان ومكان ويمكن الاتكاء عليها لتبربر أي عمل أو فعل تقتضيه المصلحة الخاصة.

 

لذا فإن ما نراه من خلاف سلفي- سلفي هو ناتج عن تأويل وقتي للنص، وأي تفكير سلفي سيكون في المستقبل مرشحاً للوصول إلى ما وصلت له داعش وأبعد، ويعتمد ذلك على الظرف والمصلحة المفترضة، يساندهم في ذلك عشرات الآلاف من النصوص القابلة للتأويل، ويبقى تحليل المعنى وفهمه يمتلك أداة فضفاضة يمكن توسيعها وتضييقها في كل الاتجاهات، ما دام النص موجوداً بكل طاقاته واتساعاته بالإضافة إلى إمكاناته الواسعة في حمل الأوجه المختلفة.

 

وقد لاحظنا أن الذين خرجوا لإدانة عملية إحراق الشهيد الكساسبة لم ينفوا أصل النصوص التي كانت ترافق تبرير عملية الحرق، لكنهم انتقدوا طرق تأويلها وفهمها، والنتيجة أن التأويل هو لب الاختلاف السلفي، وعليه يحمل الرهان على هذا الخلاف مخاطر استراتيجية في المستقبل، وما يمكن أن يكون من قبيل اللعب بالنار لتحقيق مصالح آنية قصيرة المدى.

 

لابدّ من تعزيز فكرة الصراع السياسي والوطني مع داعش، وعدم تحويله إلى حرب دينية ستكون وبالاً على الجميع مهما كانت نتيجتها.

 

  • كاتب وباحث ورئيس قسمي اللغة العربية والصحافة في جامعة فيلادلفيا. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.

 

أضف تعليقك