النازية الجديدة: مبتدع "المشرقية" مثالاً
بغض النظر عن اعتذار صحيفة "الأخبار" اللبنانية للشعب السوري عن نشرها مقال كاتبها مبتدع المشرقية «بدء المرحلة الأولى للحل السياسي في سوريا» بسبب تعديه على «المبادئ الأخلاقية والسياسية»، فإن المسألة برمتها ليست عابرة بالنسبة للأردنيين، تحديداً، الذين خضعوا لأكبر عملية تزوير معرفية قادها هذا الكاتب، طوال عقدين مارس خلالهما الافتراء والتعسف، في قراءة التاريخ والحاضر، مكرساً خطاب الكراهية والتحريض.
يلغي كاتب المقال المذكور وجود ملايين اللاجئين السوريين، إذ يعتقد بأن «خسارتهم لا تعد نزفاً ديموغرافياً»، ويخرجهم من صراع هم عبء فيه على «الكتلة الوطنية المدنية»، التي يعرّفها في سطر سابق بأنها «أبناء المكوّنات السورية غير الوهابية»؛ وهو تعريف لا يمكن التعامل معه ببراءة إذا وضع إلى جانب عشرات المصطلحات العنصرية التي استخدمها صاحب المقال منذ امتهانه الكتابة.
لا يمكننا فصل تنظيرات الكاتب المشرقي؛ السابقة منها عن اللاحقة، ويمكن لمتابع مقالاته أن يحصي آلاف المرات –من دون مبالغة- التي استخدم فيها مصطلحي: «الأكثرية» و«الأقلية» للتعبير عن مكوّنات طائفية أو إقليمية أو مذهبية، ولن تجد استعمالاً لهما في سياق توصيف سياسي أو ثقافي أو فكري، ويتكئ على هذا التصنيف في قضايا عديدة أخضعها لمنطقٍ عنصري، تفضحه لغته على الدوام.
يبذل جهوداً، أقل ما توصف بأنها غير علمية، للحديث عن ثنائيات الأقلية والأكثرية، في انتصاره لأي فريق ينحاز إليه، فيتلاعب بالأرقام مرّات، ويركز على أرقام ونسب –لا معنى لها إلاّ بما يلائم التفكير الرغبوي والنزعات العنصرية لديه- فتحتشد كتابته بنسبة المسيحيين الأردنيين قبل نكبة فلسطين، ونسبة المسيحيين في بلاد الشام قبل مجيء العثمانيين، ونسبة الشرق أردنيين، ونسبة الأقليات في سوريا الطبيعية.. الخ، وهذه التوزيعات تشكل ركيزة أساسية في خطابه متجاهلاً بذلك، ورافضاً، تشكّل الوعي بمعزل عن العصبيات الفرعية.
يستند حضور الأقليات والأكثريات لديه إلى تعميمات مضللة حول فئة أو مكوّن اجتماعي، فيرى أن للفلاحين «المشرقيين» ثلاث عقائد؛ عقيدة البطل الشهيد وليس عبثاً أن يحيلها إلى رموز وثنية و"مسيحية" و"شيعية"؛ (أدونيس، إنانا، المسيح، الحسين)، وعودة البطل المقدس ليزيل «المظلوميات»، مضيفاً إلى تنظيره المجتزئ واللاعلمي والمحال إلى فكرة «تحالف الأقليات»، التي يجهد بالترويج لها، عقيدةً ثالثةً هي «العقيدة الحيّة للصراع الاجتماعي، المرتبطة بالبطل الهمام، نصير الفلاحين، القادر على مواجهة الظالمين، وتأمين سلامة المجتمع الفلاحي، ضد الوحش الصحراوي»، متمثلاً هذا "البطل الهمام" بالخضر والإمام علي.
وتتجلى أوهام الأقلية والأكثرية في إطار مراجعته التطور الاجتماعي للمنطقة، محقبّاً المئة والخمسين سنة الأخيرة بمرحلة "مسيحية" فـ"سنية" ثم "شيعية"، على التوالي، مفترضاً أن زعماء المشرق في نهاية القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين مسيحيون، وهو لا يرى بذلك أنطوان سعادة وميشيل عفلق والمناضل العراقي فهد –الأسماء التي يذكرها- إلاّ مسيحيين، نازعاً عنهم مبادئهم وأفكارهم التي دعوا إليها: قومية سورية اجتماعية، وبعثية، وشيوعية.
ثم يشير إلى «سنّية» كل من عبد الناصر وبن بله وياسر عرفات ومعمر القذافي وصدام حسين وحافظ الأسد (الذي يرى المنظّر أنه، برغم أصوله العلوية وفكره التقدمي العلماني، كان «سنياً»، من الناحية السياسية والسيميائية، لكن المخيال المذهبي العربي، لم يقبل باندماجه)، ونحن هنا إزاء مغالطتين أساستين لدى منظرّ بدعة المشرقية، فلا يرى هؤلاء الساسة ضمن سياقات اجتماعية وتحررية منفصلة ومختلفة أوصلتهم إلى السلطة، إنما يعتبرهم قادة «سنة»، وهو يشاطر رؤية جزءٍ من البعثيين العراقيين والدواعش تجاه صدام حسين، وتتجلى المغالطة الثانية في نظرته إلى حافظ الأسد، الذي صنفه «سنياً في أوساط معادية لاندماجه»، وهو بذلك يذكّر بعقدة نقص مركبة تتصل بـ"الجيتو" اليهودي في أوروبا، حيث أصرّ المسيحيون على اعتبار اليهود الذين عُمدّوا في الكنيسة مواطنين من الدرجة الثانية (في القرنين الخامس والسادس عشر)، وهي تعادل وتماثل معالجة وتفكّر الكاتب بحالة حافظ الأسد، وربما تحيل إلى جوهر وعي الكاتب المأزوم بمعادلات تكوين شخصيته الخاصة، ما يدفعه إلى اللجوء بالحاح مزمن لتسويغ طائفيته العابرة في قوالب وصياغات إقليمية ومذهبية فاشية.
لا تفوتوا المرحلة الثالثة، بحسب الكاتب نفسه، وهي النهضة الشيعية الحالية، كما يصفها، ويرى أن حزب الله، وقوات الحشد الشعبي في العراق، والمعارضة البحرينية، و«أنصار الله» اليمنية، يضاف إليهم بعض الشخصيات «السنية» و«المسيحية» يخوضون الصراع ضد الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية ومنظماتها الإرهابية، وأن هذه القوى –حصراً- هي من ستقود المنطقة إذا استحضرت عروبتها و«الوصفة السورية» للعلمانية بالمقاييس التي تحددها «أفكاره».
ولأن المقاييس والمعايير تتقلب لدى الكاتب، دائماً، فيبدو أن لا ضرورة، اليوم، لاستحضار «العروبة»، وفق مقاله المنشور منذ يومين في موقع «البديل» المصري بعنوان "الخليج يتنكر لجمهوره السوري"، إذ يقول بالحرف «الكلام على وجود “أمة عربية” واحدة، ليس له أي معنى؛ فالتناقض بين الأقاليم العربية، لا يقوم على تناقض الأنظمة السياسية، فقط، إنما على تناقض المجتمعات نفسها، أو تباعدها في الجناح الآخر، المصري والمغاربي على مستوى الفضاء الاجتماعي الثقافي، كله».
أذكّر بمفارقة خطرة تتجلى باعتماد مبتدع المشرقية على مراجع وهابية حين يتحدث عن العهدة العمرية أو في مراجعة التراث الإسلامي بأحداثه وشخوصه، وأشرت إليه في مقال سابق لي بعنوان "داعش المسيحية؛ دعاة المشرقية أنموذجاً"، وهو ما يفسر تطرّفه في معاينة حال الطوائف عبر تاريخ الإسلام.
من المذهل أن هذه النازية الجديدة التي تؤسسها «مشرقية» الكاتب، وتحتضنها أوساط «مقاومة»، تتكئ على رؤية وعدّة استشراقية في تشريح بلاد الشام والعراق انطلاقاً من استخدام مصطلح المشرقية المشتق من المفردة اللاتينية levant، وهي تصف منظومة جغرافية إثنية ثقافية من وجهة نظر الرومان في تنميط أعدائهم شرق المتوسط. وجرى تجديد الاسم مع المستشرقين الذين زاروا المنطقة وكتبوا عنها، وكذلك الانتداب الفرنسي. لكن «مشرقية» الكاتب تزيد على ذلك بأنها تفرّغ هذا المفهوم من أي مشروع سياسي أو أيديولوجي ليعبّر عن «مجاميع بشرية» تتوحد بسبب تنوعها الطائفي (راجع كل ما كتب حول اللقاء المشرقي في صحيفة الأخبار اللبنانية).
الأوهام المشرقية لدى مبتدعها وعرّابها لم تبتدئ اليوم، كما أنها لم تتحول فجأة إلى نزعة نازية تدعو للقتل والإلغاء والإبادة العنصرية، بل يمكن العثور على مقدمات وجذور هذه «النزعة» في كتاباته السابقة منذ الحديث عن الأردن باعتباره «سيف الصحراء»، وإلى كل المفاهيم التي رافقت تنظيراته عشرين عاماً حول الهوية الأردنية وفك الارتباط، وبإمكان الجميع العودة إليها وتمحيص أفكاره حول الأقلية والأكثرية، وكتابته حول تاريخ الأردن وشخصية أبنائه.
هنا ينهار مشروعه على يديه، فكتاباته المتواصلة تتناقض على نحو صارخ مع تنظيراته السابقة، وتفضح نزعاته العنصرية المضمرة، وتكشف مفاهيمه المزورة، الذي عدّها كتاّب يساريون وإصلاحيون –يخاصمه بعضهم اليوم- وثائق «مؤسِسة» للأردن حتى فترة قريبة!
- محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.