المُواطَنَة الحقة سبيل النجاة

 المُواطَنَة الحقة سبيل النجاة
الرابط المختصر

المُواطَنَة مفهوم أوروبي غربي نشأ مع قيام الدولة-المدنية في اليونان القديمة. وتتضمن الحقوق التي يتمتع بها سكان المدينة الأحرار، والواجبات المترتبة عليهم المستمدة من القوانين السارية المفعول في المدينة. ولما كان سكان المدينة الأحرار يتمتعون بالحريات العامة والفردية، ويشاركون في إدارة مدينتهم وفي تقرير سياستها الداخلية والخارجية، فقد كانوا متساوين أمام القانون، أي أنهم كانوا يعيشون حياة ديمقراطية تقوم على حكم الشعب بالشعب ولصالح الشعب.

ومع أن هذا النمط من الحكم اقتصر على أثينا وبعض المدن اليونانية الأخرى في العصور القديمة، ولم ينتشر في بقية أنحاء أوروبا طوال العصور القديمة والعصور الوسطى وحتى أواخر القرن الثامن عشر من العصور الحديثة، فان إبداع فكرة المواطنة يعود الفضل فيه إلى اليونان والحضارة الغربية. وتعد، بلا شك، من أعظم الأفكار التي ابتدعها الفكر السياسي الإنساني. لم يعرف العرب فكرة المواطنة بمفهومها اليوناني والغربي الحديث. فهي في اللغة الانجليزية Citizenship وفي اللغة الفرنسية Citoyenneté وفي اللغة الألمانية Burgertum، وجميعها مشتقة من كلمة "مدينة: Burg, Cité, City على التوالي. عادت كلمة مواطن ومواطنة إلى الظهور في أوروبا في عصر التنوير في القرن الثامن عشر، واستعملت في فرنسا مع قيام الثورة الفرنسية سنة 1789. وغدا الفرنسيون يخاطبون بعضهم بعضا "بالسيد المواطن Monsieur le citoyen". واستعادت المواطنة مفهومها اليوناني القديم على مستوى الدولة الفرنسية التي نشأت في أعقاب الثورة التي جعلت شعارها: الحرية والمساواة والإخاء وتمسكت بحقوق الإنسان التي وردت في مقدمة أول دستور بعد الثورة. ومن فرنسا انتقل المفهوم الى بقية الدول الأوروبية والى العالم الجديد.

وحينما اتصل العرب بأوروبا في القرن التاسع عشر، تحدثوا عن الحياة السياسية فيها ووصفوا مختلف جوانبها. وكان الشيخ رفاعة الطهطاوي أول من وصف المواطنة وحقوق المواطن وواجباته في كتابه "المرشد الأمين للبنات والبنين" الصادر سنة 1873 بقوله: "فابن الوطن المتأصل به، أو المنتجع إليه، الذي توطن به واتخذه وطناً ينسب إليه تارة وإلى اسمه فيقال: مصري، وإلى الأهل فيقال: أهلي أو إلى الوطن فيقال وطني، ومعنى ذلك أنه يتمتع بحقوق بلده، وأعظم هذه الحقوق الحرية التامة في الجمعية التأنسية. ولا يتصف الوطني بوصف الحرية إلا إذا كان منقاداً لقانون الوطن ومعيناً على إجرائه. فانقياده لأصول بلده يستلزم ضمناً ضمان وطنه له التمتع بالحقوق المدنية، والتمييز بالمزايا البلدية، فبهذا المعنى هو وطني وبلدي". لكن مفهوم المواطنة لم يعن العرب به مباشرة إلا في القرن العشرين. وكانت عنايتهم أكبر بالوطن والوطنية، وكتبوا فيهما الكثير نثراً وشعراً.

عرف العرب المواطنة في ظل الاستعمار الغربي في القرن العشرين، بعد أن جزأ وطنهم إلى كيانات سياسية عديدة، أصبحت أوطاناً يقيم فيها أناس يحملون جنسيتها، دون أن يتمتعوا بحقوق المواطنة وبواجباتها في الدولة الحديثة. ولما استقلت هذه الأقطار العربية لم يتغير الحال. افتقر المواطنون إلى دولة القانون والى المساواة الحقيقية أمام القانون، وغابت عن أوطانهم الحرية والكرامة. ولم يعرفوا المشاركة الفاعلة في إدارة الدولة وفي تقرير مصيرهم. وظلت الولاءات البدائية الضيقة: العائلية والعشائرية والمذهبية والطائفية والجهوية والاثنية، هي السائدة في مجتمعاتهم. وتغلبت هذه الولاءات الضيقة على الولاء للوطن وللأمة.

وكان لها نتائجها الوخيمة على الدولة والمجتمع في كل قطر عربي. وعشنا وما زلنا نعيش أزمة حقيقية، كانت سبباً في تدخل الدول الكبرى في شؤوننا الداخلية، وشن الحروب علينا، وتدمير كل ما بنيناه منذ بداية عهد الاستقلال. المواطنة مفهوم سياسي قانوني له آفاقه الثقافية والاجتماعية والنفسية، تتجاوز الولاءات الضيقة، وتحدد بصورة قانونية وسياسية علاقة الفرد بالدولة.

وهي المعيار الوحيد لتحديد حقوقه والتزاماته، والضمانة لكرامته الإنسانية. وهي، فوق ذلك كله، خصوصية اجتماعية لها صلة بالانتماء للدولة. كما أنها تسهم في تحقيق التجانس والتماسك في المجتمع. نحن اليوم بحاجة ماسة لترسيخ مفهوم المواطنة الحقة، وإعلاء قيمتها، باعتبارها ضرورة لمجابهة الأخطار والتحديات التي تواجهها مجتمعاتنا العربية. وأول هذه الأخطار تنامي تيارات العزلة والفرقة بين الأقطار العربية، وثانيها خطر الأطماع الأجنبية. ومساعي الدول الكبرى الرامية إلى حماية حقوق الأقليات في دولنا شاهد حي على هذه الأطماع التي تثير القلق والخوف. لهذا كله فإن ترسيخ المواطنة الحقة في مجتمعاتنا ودولنا هو سبيل النجاة من هذه الأخطار .

 العرب اليوم

أضف تعليقك