المنظومة الحمائية للأنظمة العربية
* منع من النشر في الصحافة الورقة
هذه هي عادة الأنظمة العربية جميعاً، غير راغبة أبداً في لعب الدور الأساسي المعبر عن مبرر وجودها، وهو بناء وتطبيق برنامج الرعاية الإجتماعي المفترض فيه أن يعم مجموع الشعب، وكون هذه الأنظمة هاربة من أداء واجبها في هذا المكان وهو المكان الأساسي، فإنها تحاول دوماً البحث عن مهمة ثشكل مبرراً لوجودها، وهذه المهمة كما يشهد العالم العربي بأكمله هي مهمة أمنية الطابع، مستندة أساساً إلى آليات التفريق للمجموع الشعبي إلى فئات و من ثم لعب دور الحكم فيما بينها، ويمتد الأمر إلى أن تحاول تزييف وعي فئة إجتماعية معينة بزرع شعور الخوف الدائم من فئة أخرى متربصة ، هذه هي الطريقة الأمثل التي تتبعها هذه الأنظمة للحفاظ على وجودها، وإن لم تفعل ذلك فلا يبقى أمام الناس إلا الرجوع إلى المبرر الأساسي لوجود النظام وهو الرعاية وإدارة موارد الثروة والتوزيع العادل لها، وعندها "ستريد كل الشعوب إسقاط النظام".
يشهد العالم العربي اليوم سلسلة من الإحتجاجات الشعبية في كل مكان، وإنطلقت هذه السلسة بشكل عفوي شعبي إرادوي عنيد، وبؤر التوتر الأساسية المحفزة لهذا الحراك تمثلت في الجوع والفقر والحرمان من الحاجات الأساسية لحياة كريمة، تعاطت الأنظمة العربية بأساليب متشابهة الطابع للخروج من أزماتها، في مصر حاول النظام تحييد الأقباط عن الصراع من خلال إخافتهم بالبديل الإسلامي القادم في حال رحيل النظام، وأطلق رجال الأمن بغطاء مجموع شعبي مؤيد للنظام، رفعت الأجهزة الأمنية أيديها عن مهمتها في ضبط النظام، وهي المهمة الدعائية الأساسية له، إذ سمحت للإشتباكات أن تتصاعد، محاولة إبراز دورالنظام وأهميته أمنياً، وتحت حجج الحرص على البلاد من فوضى قادمة يرشح النظام نفسه مجدداً للبقاء، لقد قدم الشعب المصري في تلك المرحلة نموذجاً يتجاوز البعد الصمودي، إلى حدود الذكاء السياسي الحقيقي، فلم تنطلي عليه المسألة، وأكد ثقته بأن هذه الفوضى مصطنعة زائلة بزوال النظام نفسه الصانع لها. وفي تونس لعب النظام بذات الأدوات، محاولاً إبراز دوره الأمني والعواقب الوخيمة في حال غيابه، ولكن كانت إرادة الشعب التونسي الذي يعد من أقل الشعوب العربية معاناة لآليات التفريق الديني أو العرقي أو المذهبي. وفي البحرين إستند النظام طويلاً إلى آليات إخافة المجموع السني من خطر الشيعة، وأن غياب النظام الحالي يعني قطعاً مجزرة بشرية في حق السنة، وبذلك تمكن في أماكن ما من تمكين هذا الوعي في صفوف السنة، زارعاً فيهم أولوية الإختيار لصالح الأمان على حساب الخبز، بمعنى إيصال المواطن البحريني السني الفقير إلى نقطة الخوف على النظام بموجب الخوف على الأمن الشخصي! ومع ذلك،فإن الوعي الطبقي يسبق ويتشكل في الأزمات، اليوم في ظل هذه الظروف سيلجأ النظام البحريني إلى هذه الصيغة كحل، سيحاول تجييش الجمهور السني لإيقاف الحراك تحت حجة إيقاف الخطر الشيعي القادم بلباس ثورة شعبية مطلبية!
وهنا في الأردن، إنطلقت يوم الجمعة مسيرة شعبية تطالب بإصلاح النظام السياسي مقدمة تعبيرات شاملة، مبتدئة بلا جدوى تغيير الوجوه ومنتهية بالمطالبة بإسقاط وادي عربة، إذن هي مطالبة بقلب كامل لصيغ التحالف السياسي والإقتصادي الذي تتبناه الفئة الحاكمة، وهي مطالبة بما لا ترغب بعمله الطبقة الحاكمة _وليس كما تدعي عاجزة عنه في الظرف الراهن_. تجربة طويلة وخبرة واسعة للنظام في الأردن في آليات التفريق والتنفيس على حد سواء، وإشكالية واضحة لا تخفى على أحد في العمل السياسي الأردني، تلك الثنائية الإقليمية "الفلسطينية- الشرق أردنية"! هي اليوم تستخدم كأداة فعالة في وجه المشروع التغييري للأردن. لتفصيل المسألة بشكل أوسع، لنتعرض للأسئلة التالية :
في مسيرة الجمعة إندس عدد من "البلطجية" ، وهذه المصطلح أصبح بمكان لا حاجة فيه لتفسير المعنى و من هم البلطجية أساسًاً، إندس عدد منهم مطلقين هتافات "تحيا وادي عربة"، وأخرى مشعلة للفتنة معروفة الأساس لدى الجميع. السؤال الأول هو: هل تشبع وعي "شرق الأردني" بالكراهية الخالصة للفلسطينيين والتي تصل إلى حد الترحيب بإسرائيل بعد أن خاض الجيش الأردني معركة طاحنة في الكرامة جنباً إلى جنب مع الفلسطينيين ضدها؟
هل حقاً جمهور المخيمات و الأصول الفلسطينية ينظر إلى الأردن كبلد عبور له دوره المؤقت الزائل بزوال الإحتلال الإسرائيلي لفلسطين؟ وهل هذا الجمهور منسلخ ومعزول عن المشهد السياسي العام؟
لقد كانت أحداث أيلول محطة تاريخية فاصلة لتندرج – وللأسف - جموع من الناس "وليس الجميع " تحت إجابة نعم للسؤالين أعلاه، علينا أن نكون واضحين وصريحين في هذه المسألة، هذا الشكل المفرق من الوعي موجود، وآليات تذويبه هي جزء أساسي من آليات التغيير في الأردن، أدناه مجموعة من المشاهد المذوبة لهذا الشكل التفريقي من الوعي:
على الصعيد الداخلي الإقتصادي، فإن الفئة المستحوذة على موارد الثروة هي فئة مختلطة "ضمن التعريف التفريقي نفسه "، والفئة المستغلة الفقيرة كذلك، مما يقدم مؤشراً واضحاً على أن كل المطالبات بتغيير النهج الإقتصادي والسياسي لا يخضع أبداً لمنطق التقسيم الإقليمي وإنما يقدم مشروع إنقاذ لكل الفئات المسحوقة على إختلاف أصولها.
الفئات المشاركة في المسيرات الإحتجاجية مختلطة كذلك، وهي تقدم نموذجاً للوحدة الطبقية بالدرجة الأولى، من تعرض للضرب في المسيرة الأخيرة ليس "شرق الأردني" وليس "إبن الأصل الفلسطيني" إنه المتضرر الواعي للخطر المحدق بالبلاد نتيجة لسياسات التبعية والخصخصة وإنسحاب الدولة من مشهد الرعاية ! .
على الشعب الأردني اليوم أن يمسك ببوصلته الطبقية أولاً، فأوهام تفضيل "شرق الأردني" في القطاع العام قد إنتهت بإنتهائه، وزالت معها أوهام تحكم " الأصول الفلسطينية" في القطاع الخاص، الأردن اليوم منطقة حرة، يتلاعب بها الإستثمار الأجنبي معفىً من كل أشكال الضرائب التي تحمل عبئها أبناء الشعب الأردني على إختلاف أصولهم، أما فيما يتعلق بإسرائيل، فلم يعد اليوم من مكان لإنكار دورها التوسعي إلى حدود الأردن نفسها، إذن فالمعركة مع إسرائيل هي ليست معركة مشتركة، إنما معركة واحدة، المهدد الأول والأخير فيها هو المجموع البشري الذي يقطن المحيط الجغرافي بأكمله، لا أمل في تحرير فلسطين دون إخراج القضية من حدودها القطرية الضيقة، ولا أمل في حماية الأردن إلا بإتباع النهج ذاته!
وبالطبع لا يلقى عبء ما حدث يوم الجمعة على هذا التاريخ في تطور الوعي لبعض المجاميع فقط ، وإنما يلقى بالأساس على كاهل السلطة السياسية وهي المبادر الأول لتعبئة المجاميع المستعدة نفسياً من جهة وبإستخدام أفراد مأجورين في المسيرة الأخيرة من جهة أخرى لزرع أوهام "منع الفوضى" التي ستصيب البلاد في حالة غيابها.
هناك أربعة رسائل لا بد من توجيهيها اليوم إلى أربعة أطراف تلعب دور أساسياً في المشهد السياسي العام :
رسالة أولى إلى الغارقين حتى اللحظة في الإنسلاخ والإنعزال عن الواقع السياسي في الأردن، وهم من يسمون في التعريف التفريقي "أبناء الأصول الفلسطينية"، لا إمكانية للفصل بين النضال من أجل فلسطين والنضال ضد الأنظمة العربية القائمة، وإن لم يكن كذلك فلماذا تدفقتم يوم إسقاط النظام المصري تهتفون لمصر والمصريين وتستذكرون أيام عبد الناصر وتطالبون بعودتها؟ ألم تتنفسوا الصعداء آملين بعودة المصريين إلى مشهد القضية "الفلسطينية".
رسالة ثانية إلى الغارقين في وهم الخوف من إستيلاء " أبناء الأصول الفلسطينية" على البلاد، وهم من يسمون في التعريف التفريقي "شرق الأردنيين"، الأردن مهدد بخطر إسرائيل، والحلول الأنانية في مواجهة هذا الخطر غير متاحة أساساً، لقد سلم النظام في الأردن الإقتصاد بالكامل للإستثمار الأجنبي، وخصخصت كل المؤسسات الوطنية، الناجي الوحيد اليوم هو من يجيد اللعب في فوضى السوق مدعوماً بسلسلة من العلاقات المصلحية، والغارقون كثر جداً.
رسالة ثالثة إلى النخب القائمة على هذا الحراك، تقديم المعركة في سبيل العدالة الإجتماعية بات لازماً على حساب المعركة في سبيل "الحريات" و "الديمقراطية"، فاليوم تحتشد الناس بلا إذن ولا سابق إنذار، وكان هذا نتيجة للقفز الجريء لهذه النخب عن حواجز المعارك الهامشية المتمثلة في قانون الإجتماعات العامة بالدرجة الأولى، لقد حققت هذه النخب نصراً ضمنياً وحاسماً في هذه الموقعة، ولم يعد هناك أبداً من حاجة لتقديم إستجداءات إضافية من أجل النزول إلى الشارع! لا معنى اليوم لمنن الحكومة الجديدة في إلغاء قانون الإجتماعات العامة، فالموقف الشعبي قد ألغاه، حذار من التزييف وإعتبار هذا القرار – إن حصل- خطوة تقدمية! فتلك هي أساليب الحكومات الأردنية، التنازل عن الشكلي على حساب الجوهري، المطلوب اليوم هو قلب صيغ قانون الإستثمار الأردني، وتأميم كل المؤسسات الوطنية، وإلغاء ضريبة المبيعات، وتقدم السلطة السياسية إلى موقع الراعي الإجتماعي تعليمياً وصحياً وسكنياً، هل ترغب السلطة السياسية القائمة في ذلك؟ فلندع الإجابة للمجموع الشعبي عندها فقط سيمضي معكم إلى التغيير السياسي المنشود.
رسالة رابعة وأخيرة إلى السلطة السياسية الأردنية، آن لكم أن تستفيقوا وتعتبروا من تجارب الآخرين، لقد أثبت التاريخ أن الأزمات لا تحل إلا برفع منسوب التناقضات والتوتر إلى الحد الذي يحل معه الجديد بدلاً من القديم!!